قال علي عليه‌السلام : إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا؛ امير مومنان عليه‌السلام مي‌فرمايند: همانا براي شما بهايي جز بهشت نيست، پس به کمتر از آن نفروشيد. (نهج‌البلاغه، حکمت456)

بسم الله الرحمن الرحيم

اللقاء الخاصّ الذي أجرته جريدة «برتو» الاسبوعيّة مع سماحة آية الله مصباح اليزدي حول سمات شخصيّة قائد الثورة الإمام الخامنئيّ «دام ظلّه الوارف» - 14/10/2010

برتو: بالنظر لمعرفتكم بسماحة آية الله الإمام الخامنئيّ والعلاقة الوثيقة التي كانت ولا تزال تربطكم به، نودّ أن تتفضّلوا علينا ببيان بعض ما يتّصل بالأبعاد المختلفة لشخصيّته (دام ظلّه)، لاسيّما الجوانب العلميّة والمعنويّة منها، التي ربّما تكون قد اختفت تحت شعاع شخصيّته السياسيّة.

آية الله مصباح: بسم الله الرحمن الرحيم. أنا أعترف بصفتي إنسانا أن أمثالي من الناس مبتلون إلى حد بعيد بجحود النعمة. وهذا الاعتراف يُعدّ مصداقاً لآيات قرآنيّة متعدّدة؛ من جملتها قوله سبحانه: «إنّ الإنسانَ لَظَلومٌ كَفّار»؛ فنحن غافلون عن العديد من نعماء الله تعالى ناسون لها، كنعمة وجود الأقرباء، ونعمة الأبوين، ونعمة الاُستاذ، ونعمة الأصدقاء والأحبّة، وسائر النعم التي نحن غارقون فيها. بالطبع إنّ لكلّ قاعدة عامّة استثناءات وشواذّ؛ غير أنّ الطبيعة المادّية والحيوانيّة للإنسان تقتضي مثل هذا الكفران بالنعمة؛ ذلك أنّ المرء كثير النسيان، ولعلّ العلّة من وراء عدم شكر الإنسان للنعمة هي ما يتّصف به من حالة النسيان.

فمن النعم العظيمة، التي حسب تقديريـ لو أنّ أمثالي وكلّ إيرانيّ عكف ليلَ نهار طيلة سنين مديدة من عمره على شكرها لم يؤدّ حقّها، هي نعمة توطُّد النظام الإسلاميّ، وحاكميّة الوليّ الفقيه، وعلى وجه الخصوص وجود شخص كقائد الثورة المعظّم. إذ أنّ عمليّة إرساء الحكومة الإسلاميّة بالشكل الذي يحبّه الله تعالى كانت مطمح جميع الأنبياء والأولياء والصالحين على مرّ التاريخ، ولم يخبرنا التاريخ اللهمّ إلاّ في فترات خاصّة من الزمن وبقع محدودة من الأرضـ عن حصول نموذج بارز وواضح لهذه الحكومة كالذي نشهده اليوم. فمن بين الأنبياء السابقين كانت حكومة نبيّ الله سليمان (عليه السلام) الذي قال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي‏ وَهَبْ لِي‏ مُلْكاً لا يَنْبَغي‏ لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي»، وفي آخر الزمان استطاع خاتم النبيّين (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم لبضع سنوات في المدينة، تبعتها حكومة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) ذات العهد القصير الذي انقضى معظمه في الحروب الداخلية؛ وما عدا ذلك فإنّه يصعب العثور، إذا تفحّصنا التاريخ بدقّة، على نظام حكوميّ يكون الحاكم فيه المعصوم أو مَن يتلو المعصوم. فهذه لعمري نعمة عظيمة قد منّ الله بها على مجتمعنا واُمّتنا في هذا العصر، ألا وهي نعمة هذا النظام الذي غرسه وأسّس له الإمام الراحل (رضوان الله تعالى عليه) وسقاه ورعاه قائد الثورة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه).

فلو أنّنا حاولنا حساب ما لهذا النظام الإسلاميّ من القدار والقيمة، وأين تقع هذه النعمة مقارنة بسائر النعم التي أولاها الله تعالى للبشر، وأي تناسب بينها وبين النعم المادية والدنيوية الاخرى، فمن المستبعَد أن نتوصّل إلى تناسب منطقيّ بينهما. فهذه النعمة هي أيضاً في الحياة الدنيا؛ لكنّها تشكّل جسراً نحو الآخرة والسعادة الأبديّة، ومن الصعوبة بمكان أن نتوصّل إلى تناسب بين الاثنين. فسائر النعم مهما بلغت من العظمة فهي تبقى في مقابل هذه النعمة التي من شأنها أن تَهَب للبشر ما لا نفاد له من السعادة الأبديّةـ في حكم الصفر. من أجل ذلك فإنّ من الضروريّ بمكان، كلّما سنحت الفرصة واُتيح المجال، أن نذكّر الناس بهذه النعمة الإلهيّة الجسيمة كي يدركوا مقدار ما في أعناقهم من شكرها. كما وإنّ إحدى فوائد هذا العمل هي أنّ وقوف المرء على عِظم النعمة وخطرها سييسّر عليه كثيرا تحمّل ما يشكوه من ضنك العيش وقسوة الحياة.

فهذا العالم لا تخلو ظواهره من أشكال النقص والعجز، والقرآن الكريم يقول: «لَقَد خَلَقنَا الإنسَانَ فِي كَبَد»؛ أي إنّ حياة الإنسان ممزوجة بالمعاناة والشدائد؛ لكنّ تحمّل هذه المصاعب سيهون كثيراً إذا لمس المرء ما هو غارق فيه من نعمة عظيمة. فالشخص الذي يملك مقداراً هائلاً من المال مليار دولار مثلاًـ في حسابه المصرفيّ لن يأبه لفقدان دولار واحد، لعلمه بمقدار ما يملك ويقينه بأنّ فقدانه لدولار واحد لن يسبّب له خسارة تُذكر. أمّا ذلك الذي ليس في حوزته من مال الدنيا سوى ورقة فئة دولار واحد، فإنّه سيصاب بغمّ شديد ويتألّم حتّى إذا بَلِي طرف من أطرافها. من هنا فإنّنا إذا التفتنا وتنبّهنا لعظيم النعمة التي أسبغها الله علينا في هذا العصر فانه ستهون علينا بعض المحن، التي هي من اللوازم الطبيعيّة لحوادث هذا العالم، وسيشبه هذا الامر قضيّة فقدان الدولار الواحد لصاحب الثروة الجسيمة حيث يكون تحمّلها علينا سهلاً يسيراً.

النعمة الاخرى التي ينبغي لنا شكرها هي نعمة وجود شخص كالإمام الراحل (رحمة الله عليه). فخلال المدّة القصيرة التي أدركنا وجوده فيها اعترف جميع من يمتلكون صلاحيّة إبداء الرأي في هذا المجال أنّه على الأقلّ في القرون القليلة الماضيةـ لا توجد في العالم شخصيّة توازيه في العظمة. طبعاً تقييم هؤلاء كان يستند إلى المعايير المادّية وأغلبهم ما كان يدرك الأهمّية المعنويّة لوجوده (رحمه الله)؛ فالإنجاز الهائل الذي قام به الإمام الراحل والتحوّل العظيم الذي أوجده في نفوس الناس إنّما يتلخّص بما أَوصَل إليه الشباب المسلم من منازل العرفان الراقية وذُرى المعنويّات العالية بعد ما كانوا عليه من البطالة والتسكّع في الطرق والأزقّة؛ وعلى الرغم من أنّ مثل هذه الخصوصيّات للإمام لا يمكن تقييمها عبر الحسابات المادّية، فقد عدّوه أعظم شخصيّات زمانه. ينبغي لنا أن نلتفت أكثر ونطيل النظر إلى هذه الجوانب من شخصيّة الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه) لندرك جيّداً ما قد انتُشلنا منه من مهاوي العجز والذلّ والحقارة، وما قد ارتقيناه من ذُرى العزّة والمجد والكرامة تحت لواء قيادته الحكيمة؛ سواء العزّة الدنيويّة في الأوساط الدوليّة، أو العزّة المعنويّة والسموّ الأخلاقيّ الذي دبّ في مجتمعنا وصار يسري بشكل أو بآخرـ إلى سائر المجتمعات.

الحقيقة أنّه في زمان حياة الإمام (رحمة الله عليه) كلّما كانت تراودني فكرة: ما الذي سيحصل بعد رحيل الإمام؟ ينتابني الاضطراب واُحاول أن أصرف هذه الفكرة عن مخيّلتي ولا أعود إلى التفكير بها بتاتاً. إذ لم يكن يتبادر إلى ذهني أيّ جواب شافٍ أو خطّة مُقنِعة من شأنها أن تملأ الفراغ الذي سيولّده رحيل الإمام (رحمة الله عليه). فهذه القضيّة تقلقني شديد القلق إلى درجة أنّني كنت اُحاول عدم التفكير فيها أساساً. لكنّه عندما تسلّم قائد الثورة المعظّم (دامت بركاته) مقاليد القيادة شعرتُ كأنّ ماءً بارداً قد صُبّ على هذه النار الملتهبة. بالطبع أنا أعترف أنّني في بادئ الأمر لم أكن اُحيط علماً بمهاراته المختلفة؛ فجُلّ ما كنت أعرفه أنّه كان متقدّماً على أقرانه؛ أمّا فيما بعد وقد ذكرتُ ذلك مراراً وتكراراًـ فقد بدى لنا وكأنّ روح الإمام (قدّس سرّه) قد حلّت في بدنه، حتّى أنّ عين تلك العظمة، وبخصوصيّات ممتازة أيضاً، قد ظهرت في شخصيّته. في الحقيقة لا يسعني أن اُقارن كلّ سمات الإمام بسمات شخصيّة قائد الثورة لأقول إنّهما متساويان في قسم منها، أو إنّ أحدهما يسمو على الآخر في قسمها الآخر؛ إذ أنّ إصدار حكم من هذا القبيل يحتاج إلى صلاحية على مستوى عال؛ لكنّني أعلم على نحو الإجمال أنّ هذا الاختيار كان الأفضل بعد الإمام (رحمه الله) وإنّ قناعتي بذلك تزداد يوماً بعد يوم. فكلّنا نلاحظ مدى ما أودعه الله في كيان هذا الرجل العظيم من استعدادات وكفاءات وقابليّات ولا ريب في أنّ هذه الكفاءات والاستعدادات قد نَمَت أيضاً على مرّ الزمان. بالطبع فإنّه مضافاً إلى ما يتمتّع به هذا الرجل من إخلاص وما قدّمه من تضحيات فإنّ التسديدات الإلهيّة قد شملته وتشمله أيضاً؛ لكنّه لابدّ من أن تتوفّر في المرء أرضيّة لظهور الكمالات فيه وعندئذ ينزل الله تعالى عليه ألطافه.

خلاصة الأمر فإنّ شخصيّته (دام ظلّه) تُعدّ بالنسبة لكلّ مسلم، واخص بالذکر المسلمين الإيرانيين، وعلى وجه التحديد الشيعة منهمـ نعمة هي على جانب من العظمة بحيث لا يمكن قياسها بباقي النعم؛ بمعنى انّنا لو وضعنا كلّ الآلاء المادّية في كفّة ميزان وهذه النعمة لوحدها في الكفّة الاخرى، فإنّ قيمة وفائدة وجود هذا الرجل بعنوان كونه نعمة لكلّ فرد منّا، وليس للمجتمع ككلّ، سترجح على مجموع النعم المادّية التي منّ الله بها على كلّ فرد من أفراد مجتمعنا؛ بطبيعة الحال هذا مع الحفاظ على مكانة نعمة معرفة الله عزّ وجلّ وولاية أهل البيت (عليهم السلام). وبناء عليه فإنّنا لو حاولنا حساب قيمة وجوده لكلّ فرد منّا بِلُغة الأعداد والأرقام لما كان ذلك ممكناً.

التصديق بهذا الادّعاء ليس صعباً للغاية. فإنّنا لو تصفّحنا حياته الشخصيّة وطالعنا على الأقلّـ عن فترتها الممتدّة من زمان تولّيه لمنصب رئاسة الجمهوريّة إلى الآن، أيّ سنوات تصدّيه للمناصب الرسميّة، واستعنّا بالمقارنة بينه وبين سائر رؤساء العالم وزعمائه، لوجدنا بوناً شاسعاً بينه وبينهم على صعيد إمكانيّة إدارة شؤون البلاد، وسعة الصدر، والشموليّة، والتقوى، والرأفة، والإخلاص، والشفقة، وغيرها المئات من الأصعدة. فمن ناحية النزاهة الأخلاقيّة على سبيل المثالـ لو أنّك اطّلعت على سيرة أغلب رؤساء العالم في عصرنا الحاضر لوجدت أنّ سجلاّتهم مليئة بنقاط الضعف، والفساد، والاختلاس، وأكل الربا، وأمثال ذلك؛ لكنّه لا يمكنك أن تعثر، ولو على نقطة سوداء واحدة، في حياة قائد الثورة المعظّم على مدى تلك الثلاثين عاماً من حياته السياسيّة؛ فکيف يمكننا تقييم هذا الاختلاف والتباين؟ وأمّا القياس ببعض الشخصيّات الداخليّة فإنّنا نضعه جانباً، لئلاّ تقع مصداقاً للقول: «الدهر أنزلني، ثمّ أنزلني»!

فلتقارِن هذه الشخصيّة الجليلة القدر برؤساء وزعماء الدول الاخرى كي تنظر أيّ قائد وهبَنا الله. فكم من حقوق تُضيّع في البلدان الاخرى من أجل الوصول إلى السلطة، وكم من أموال تُهدر، وكم من دعايات سوء تستخدم، ثمّ بعد جلوسهم على كراسيّهم کيف استغلوا مناصبهم أبشع استغلال؛ فلتنظر أيّ قائد مَنّ الله تعالى علينا به، وأيّ محبوبيّة حباه بحيث إنّه لم ينفق حتّى ريالاً واحداً لا على رئاسته للجمهوريّة، ولا على عضويّته للمجلس، ولا على قيادته للاُمّة؛ بل إنّ جميع تلك المناصب تقريباً قد فُرضت عليه فرضاً، وهو لم يقبلها إلاّ من باب أداء الواجب والتكليف.

يتّضح ممّا سبق إلى أيّ مدى أنا كافر بالنعمة، والأكثر كفراناً منّي هم الذين يعلمون بكلّ هذه الامور وليس أنّهم لا يقرّون بكفرانهم للنعمة فحسب، بل إنّ لديهم ادّعاءات عريضة، ويتفوّهون أحياناً بكلام بعيد عن الصواب أيضاً! ولا ندري أيّ جواب سيجيب هؤلاء ربّهم، هذا إذا كانوا يعتقدون بالله والقيامة أصلاً.

أمّا أبعاد شخصيّة الإمام الخامنئيّ فهي حقيقةًـ بسعة تلك الروح العظيمة التي يمتلكها إنسان مُخلَص ورع. وإنّ الجميع مطّلعون على هذا الأمر وليس هو بحاجة إلى تبيين وتوضيح. فهو ما جالس جماعة وما تكلّم في موضوع إلاّ وكان لديه كلام ذو قيمة في هذا المجال وذاك التخصّص. ليس هذا فحسب، بل قد يفوق أحياناً المتخصّصين فيه؛ اللهمّ إلاّ في بعض المجالات الفنّية والتخصّصية البحتة كالطبّ والفيزياء ونظائرهما ممّا لا يُنتظر من عالم دين أن يلمّ بها. لكنّه في المسائل الاجتماعيّة، والمعلومات العامّة المطروحة على الصعيد الاجتماعيّ، والأدب، والشعر، وعلم الموسيقى وأقصد بالموسيقى القدرة على التمييز بين صحيحها وخطئها، وحقّها وباطلها، والرياضة، والخطّ، والفنّ، واُمور من هذا القبيل فهو في الصدارة. أمّا في شؤون إدارة البلاد فإنّ نبوغه بارز جدّاً؛ هذا على الرغم من أنّ الأبعاد الأساسيّة لشخصيّته والمرتبطة بقيادته وولايته لا تحظى مع بالغ الأسفـ باهتمام كبير.

أوّل خصيصة من هذا القبيل هي فقاهته. فالذين يُشهَد لهم في عالم الفقاهة بالإنصاف والتقوى يشهدون بانّ قائد الثورة المعظّم ليس دون أقرانه من الناحية الفقهيّة فحسب، بل لقد ثبت لدينا أنّ سماحته يتفوّق عليهم في بعض الموارد. فمن العلوم المهمّة في مجال الفقاهة والتي لايتوفر فيها کثير من المحقّقين البارزين هو علم الرجال. فإذا لم يكن في عالم التشيّع غير ثلاثة من الضالعين في علم الرجال فهو أحدهم لا محالة. وللأسف فإنّ سماحته غير مشهور بالحدّ المطلوب على مستوى العديد من الفروع العلميّة الاخرى. أمّا فيما يتّصل بالقضايا المرتبطة بالذاكرة؛ مثل سيرة الأشخاص، وقضايا التاريخ، والتحليلات التاريخيّة، وما إلى ذلك فهو في حدّ الإعجاز.

ومن خصائصه الاُخرى أيضاً رأفته، وعطفه، وشفقته تجاه أفراد الشعب. إذ يلاحظ أحياناً في سلوكه مع بعض عوائل الشهداء أو الأفراد ما ينمّ عن عاطفة موغلة في العمق واللطف. ومن جانب آخر فإنّ تقواه وزهده اللذين يُعدّان من جملة النماذج التاريخية الخالدة، بل وبمثابة الاسطورة لمَن لم يشاهدوا مثل هذه الصور؛ فمن العجيب أنّ شخصاً مثله في هذا المنصب الحساس وبكلّ هذه الإمكانيّات المتوفّرة لديه يعيش في هذا المستوى من الزهد وبساطة العيش. كلّ تلك الخصوصيّات، مضافاً إلى عشرات غيرها يشقّ على المرء حقيقةًـ بيانها وإحصاؤها جميعاً، هي ممّا لو توفّرت واحدة منها في امرئ فستجعل منه شخصيّة اجتماعيّة مميّزة ومرموقة إلى أبعد الحدود. فإذا كان الله تعالى قد جمع كلّ تلك الامتيازات في شخص واحد وجعله قائداً لهذه الاُمّة فكم يتعيّن علينا أن نقدر هذه النعمة؟ فإذا مُسَّت منه يوماً لا قدّر اللهـ ولو شعرة واحدة؛ فسنعلم حينها أيّ جوهرة ثمينة نادرةٍ بين أيدينا يستحيل العثور على نظير لها.

اولئك الذين يرون القائد عن كثب ويستطيعون مقارنته بأقرانه يدركون أنّ الاختلاف هو كالاختلاف بين السماء والأرض؛ فمَن هم من أمثالي لا يعلمون سوى هذا المقدار وهو أنّه أفضل من الآخرين بكثير؛ لكن إلى أيّ مدى هو أفضل؟ لا نستطيع تقييم ذلك. قد تبرز أحياناً عيّنات من هذا الاختلاف وهذه الأفضليّة، وعندما يمعن الإنسان النظر في هذه الامور يلاحظ مدى الاختلاف الكبير. فمن أبرز معالم عبقريّته ونموذجيّته هو ما ظهر في أحداث الفتنة الأخيرة؛ ومع أنّنا إلى الآن لم ندرك أبعاد وعمق هذه الفتنة كما ينبغي، وأنّ المقدار الذي أدركناه منها لا نستطيع بيانه، وإذا بينّاه فما زال الكثير من الناس لا يصدّقونه، لكنّ سماحته تعامل مع جميع تلك المشاكل والمعضلات وأوجد لها الحلول بتدبير هو في منتهى الحكمة بل ويقترب حقيقةًـ من تدبير المعصوم (عليه السلام)، وبسعة صدر تبلغ حدّ الإعجاز يصعب العثور على نظير لها عند غير المعصوم (عليه السلام). فإنّ أناته وصبره وسعة صدره في بعض المواقف وتجاه بعض الأشخاص هي ممّا يستعصي على الوصف.

لقد أسبغ الباري عزّ وجلّ كلّ تلك النعم في آن واحد على شخص واحد ووضع هذا الشخص بين يدي الشعب الإيرانيّ. نحن ننصح اولئك الغير المطّلعين على هذه القضايا أن يطالعوا أقوال شخصيّات العالم في حقّه. فلقد أبدى رؤساء بعض دول العالم إعجابهم بشخصيّته فقالوا: ما دام للشعب الإيرانيّ قائد كهذا، فإنّه لن يذوق طعم الهزيمة أبداً؛ هذا الكلام قاله «بوتين» وهو واحد من أبرز رجالات السياسة في عصرنا هذا. فإبداء رأي كهذا من شخص مثل بوتين في حقّ شخصيّة كهذه ليدعوا إلى العجب الشديد. أنّى لنا أن نعثر على مثل هذه المواقف وهو أن يبادر رئيس جموريّة بلدٍ ما إلى إصدار مثل هذا الحكم على قائد بلد آخر؟ فهو من شدّة انبهاره وإحساسه بالضآلة أمام هذه الشخصيّة لم يستطع إلاّ أن يبوح بمشاعره؛ فأيّ دافع غير هذا يمكن أن يدفع أمثال هؤلاء إلى إظهار أحاسيسهم؟ خصوصاً وإنّها قد تكون ضدّ مصالحهم أحياناً.

على أيّ حال يتحتّم علينا أن نعرف الواجب الذي في أعناقنا لشكر هذه النعمة الجسيمة، وأن نبيّنها للناس بما تتيحه لنا إمكاناتنا الفكريّة والعلميّة كي يفهموا أيّ نعمة أسبغها الله عليهم، وعندها سيتضاعف الدافع إلى شكرها، ويقدرونها حق قدرها، ويهون عليهم تحمّل الصعاب والمحن مع وجود نعمة نفيسة كهذه.

برتو: أشرتم إلى حادثة فتنة عام 2009م والتدبير الحكيم لسماحة الإمام الخامنئيّ في السيطرة عليها وإخمادها. منذ ذلك الحين وإلى الآن؛ أي منذ بداية أحداث الفتنة، ولاسيّما بعد التاسع من شهر دي (الثلاثين من كانون الأوّل، 2009) حيث كانت خاتمة الفتنة تقريباً وما سطّره الذين كانوا قد خُدعوا في أحداث الفتنة في بادئ الأمر ثمّ اهتدوا بواسطة حكمة وتدبير وصبر قائد الثورة المعظّم إلى سواء السبيل، ما سطّره هؤلاء من ملحمة في ذلك اليوم العظيمـ أقول لاسيّما بعد هذه المرحلة بدأت وسائل إعلام العدوّ المكتوبة والمسموعة والمرئيّة بشنّ هجمة شعواء على شخص الإمام الخامنئيّ، كان قد سبقها هجوم على أصل ولاية الفقيه، فاليوم صار التجاسر يطال شخص قائد الثورة متّخذاً طابع كتابة الرسائل أو أساليب اُخرى عديدة. برأيكم ما هو هدف العدوّ من هذه العمليّة في هذا الوقت بالذات، وما هو واجب الشعب بشكل عامّ، والخواصّ بشكل خاصّ، لاسيّما الحوزات العلميّة، في مواجهة هذه الهجمة الشرسة التي تُصنّف كهجوم استراتيجيّ؟

آية الله مصباح: يبدو لي أنّ هجوم العدوّ وتصعيده في هذا المضمار أمر طبيعيّ تماماً. فكلّما برزت مكانة قائد الثورة المعظّم أكثر، وزادت محبوبيّته بين الجماهير، وتجلّى تأثيره في صياغة مصير البلاد ودوام النظام الإسلاميّ، يتضاعف حنق الأعداء وقنوطهم ممّا يدفعهم للجوء إلى آخر ما في جعبتهم من خطط ومساعي يائسة ومتخبّطة. وبناءً على ذلك ليس من العجب أن تركَّز حملاتهم الإعلاميّة على شخص سماحته دام ظلّه. أمّا ما هو واجبنا تجاه هذه الهجمات الشرسة، فالجواب الإجماليّ على هذا السؤال واضح، وهو أنّ علينا أن نبذل كلّ ما في وسعنا في صدّ هذه الهجمات وأن لا ندعهم يَجْنُون ولو اليسير من ثمار مؤامراتهم. لكن كما تعلم فإنّ نشاطات شياطين الإنس والجنّ لا تكون دائماً بصورة التحايل وعن طريق إغماد السيوف بوجه الخصم؛ فعندما يُضيَّق الخناق عليهم ويصيرون قاب قوسين أو أدنى من الاحتضار والموت فإنّ آخر خدعة يستخدمونها لمواجهة عدوّهم هي إشهار السلاح علناً في وجهه؛ فهذه آخر خطوة يمكنهم اتّخاذها. لكن قبل أن تصل بهم الامور إلى هذه المرحلة فإنّهم يحاولون، بأنواع الدسائس والمكائد، أن يُضلّوا أكبر عدد من الناس، الأمر الذي بدأ منذ اليوم الأوّل لانتصار الثورة؛ لكنّه وصل اليوم إلى ذروته بالنسبة لشخص قائد الثورة. وليس فقط أعداء الثورة في الخارج هم من يفعل ذلك، إذ أنّ عملاءهم في الداخل يمدّون لهم يد العون أيضاً. بل إنّ أعداء الخارج غالباً ما ينفّذون خططهم في الداخل على يد ضعاف النفوس الأذلاّء من عملاء الداخل.

بالطبع من أجل معرفة وفهم المنبع الذي تستمدّ المنافسات والعداوات الشخصيّة منه حياتها لابدّ لنا من الولوج في تحليلات هي من مختصّات علم النفس؛ لكنّه بالإفادة من النصوص القرآنيّة والقصص التي ذكرها في هذا الباب للفت أنظارنا إلى أمثال هذه القضايا فإنّ ما يسترعي الانتباه من بينها هو عامل «الحسد». فأوّل جريمة وقعت بين بني البشر على وجه الأرض كان الحسد هو الحافز من ورائها؛ وذلك في قوله: «إِذْ قَرَّبَا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّك».

فرُبّ قائل يقول: لماذا كلّ هذه المحبوبيّة في قلوب الناس لشخص؟ والحال أنّ هناك آخرين ممّن هم أكبر منه سنّاً وأطول باعاً في ميادين النزال؛ لماذا لم يحْظَ هؤلاء بالعزّة بين الناس على رغم مساعيهم لنيل الشرف والجاه عندهم؟ وفي المقابل فإنّ قائد الثورة المعظّم لم يحرّك ساكناً للوصول إلى هذه المكانة. فهذه المسألة، وهي أنّهم بذلوا كلّ تلك الجهود، والأموال، وفكّروا، وخطّطوا من دون أن يصل أيّ منهم إلى مراده، تعذّبهم كثيراً؛ لكن الله قد أودع في قلوب الناس كلّ تلك المحبوبيّة والمكانة لسماحة قائد الثورة من دون أن يخطو هو في هذا السبيل حتّى خطوة واحدة. نحن غافلون عن أثر هذه المسائل في إثارة الخلاف وإشعال الفتن. فمعظم هذه المعارضات والاتّهامات والتفتيش عن العيوب واختلاق الذرائع إنّما تنبع من هذه العوامل النفسيّة. وعندما تكون لدى البعض مثل هذه الأرضيّات الخصبة للمخالفة سينبري الأجانب من فورهم لاستغلالها. فليس من الضروريّ أن يقوم الأعداء بتنشئة أشخاص على المعارضة والمخالفة؛ بل إنّهم يفتّشون عن اولئك المبتلين بآفات نفسيّة؛ كالشعور بالحقارة، والحسد، والوصوليّة ليهتموا بهم ويوفّروا لهم الإمكانات اللازمة لإشعال فتيل فتنة من هذا القبيل.

فلو قمنا بتحليل عوامل الفتنة الأخيرة وتقييم أسباب تأجّجها لخرجنا بنتيجة مفادها أنّ الخروج من هذه الفتنة والنجاة من المصيدة التي كانت مُعدّة يرتقي حقيقةً إلى مستوى الإعجاز. فالتمهيد لإثارة هذه الفتنة كان يجري منذ أكثر من ثلاثين عاماً، على ايدي أعداء الخارج وبعض القذرين من ضعفاء النفوس في الداخل مجنّدين لذلك كلّ طاقاتهم وموقنين جميعاً بأنّها ستكون الضربة القاصمة والمهلكة. لكنّكم شاهدتم باُمّ أعينكم أنّ تلك الأحداث ليس أنّها لم تلحق ضرراً يُذكر فحسب، بل إنّها زادت من شأن سماحته رفعة وفي مكانته عظمة. أيّ مصطلح يمكننا أن نطلقه على هذا الأمر سوى الإعجاز، والألطاف الإلهيّة، والتأييدات الربّانية؟ بل وما الذي يسعنا فعله سوى تعفير جباهنا بالتراب ساجدين في حضرة العليّ القدير شاكرين له جزيل آلائه، علّنا نوفّق إلى أداء شكر هذه النعمة.

برتو: ما هو واجب المسؤولين، والخواصّ، وأفراد الشعب في مثل هذه الظروف؟

آية الله مصباح: من المؤسف أنّ بعض الآفات والعيوب لا تستفحل إلاّ في الخواصّ من الناس، ومهما اُسند لأمثال هؤلاء من الواجبات واُوكل اليهم من المهمات أشاحوا عنها بوجوههم وأصمّوا عنها أسماعهم، إذ أنّ لهم دوافعهم الشخصيّة الخاصّة. أكثر ما يتعيّن علينا نحن فعله وما يشكّل تكليفاً شرعيّاً بالنسبة لنا هو تنبيه وإنذار الآخرين ممّن هم عرضة لانطلاء الخدعة عليهم. فليس في أيدينا فعل شيء لمن يحمل في داخله دافع المجابهة والعناد، كما ولا جدوى المحاولة مع على أمثال هؤلاء: «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى‏ قُلُوبِهِم». فهؤلاء شرذمة من الناس معدودون على الأصابع يحاولون إغواء السواد الأعظم من الناس وخداعهم. في ميدان صراع كهذا لابدّ أن يتركّز نشاطنا وأن نبذل ما بوسعنا للحيلولة دون تأثير مخطّطات هؤلاء على الأكثريّة من أفراد الشعب. ولن يتسنّى لنا القيام بذلك إلاّ إذا لم تشُب قلوبنا المآرِب، ولم نعمل في سبيل مصالحنا الخاصّة، ولم نلهث وراء الكراسي والمناصب، ويكون سعينا خالصاً لأداء شكر هذه النعمة والواجب الذي في أعناقنا من أجل صيانة منجزات هذه الثورة؛ كي لا نُوقَف للسؤال غداً أمام الله سبحانه وتعالى. أمّا إذا اتّخذنا هذه القضيّة مجرّد ذريعة، ولم نتحدّث إلاّ بما يحبّبنا في قلوب الجماهير ويجذبهم نحونا ليدلوا لنا بأصواتهم غداً في الانتخابات، أو اجتهدنا للوصول إلى منصب معيّن، فلنعلم أنّ طريقنا منحرف منذ البداية، وأنّ الوسيلة التي نتّخذها فاسدة ولا يمكن إحقاق حقّ بوسيلة فاسدة. فالقادرون على النهوض بهذه المهمّة هم اولئك الذين لا يطأون موطئاً إلى عن إخلاص، ومن أجل أداء الواجب، وفي سبيل خدمة الإسلام، والمحافظة على قيمه؛ فلا تهديد يخيفهم، ولا تطميع يثني عزائمهم، وهم يعملون في كلّ زمان بما يمليه عليهم واجبهم وتكليفهم.

بوتو: نحن على أبواب قدوم قائد الثورة المعظّم إلى محافظة قمّ المقدّسة. برأيكم ما هو واجب أهالي قم، والحوزات العلميّة، وطلبة العلوم الدينيّة، والفضلاء تجاه هذه الزيارة واستقبال هذه الشخصيّة؟

آية الله مصباح: إنّ الناس يكنّون لقائد الثورة المعظّم من المحبّة والاحترام ما يغنيهم عن النصيحة والدفع باتّجاه تنظيم الاستقبال الظاهريّ والتجمّعات الحاشدة. ونحن بدورنا، بعنوان كوننا خليّة صغيرة في هذا الجسد العظيم لحشود المستقبلين، علينا أن نشارك في هذا الاستقبال العظيم لننال الأجر والثواب.

برتو: هل ستشاركون أنتم في مراسم الاستقبال؟

آية الله مصباح: نعم، إذا شاء الله تعالى وحظينا بتوفيق المشاركة. لكن بشكل عامّ ما يُتوقَّع منّا أكثر تجاه النعمة العظيمة لوجود هذا القائد هو أن نوقظ الناس بألسنتنا، وبأقلامنا، وبسلوكنا وأن نفهمهم أنّ هذه النعمة غير قابلة للقياس بأيّ نعمة اُخرى؛ كما أنّ شكر هذه النعمة ثقيل للغاية، وإذا أدرك المرء حقيقةً ما لهذه النعمة من النفاسة والقيمة فسوف ينتابه القلق الشديد خشية أن ينقص حظّه ويقلّ نصيبه منها؛ وعندها سيبذل غاية وسعه وجهده في الإفادة من هذه النعمة. أمّا ما يقلقني أكثر فهو أن نقصّر نحن في أدائنا لواجب توعية الجماهير وتنبيههم إلى مسؤوليّاتهم تجاه هذه النعمة. لكنّ أفراد الشعب أثبتوا بجدارة أنّهم كلّما شعروا بالواجب يحتّم عليهم القيام بأمر ما، فإنّهم لا يتوانون عن السير في هذا الطريق، بل والثبات إلى حدّ بذل النفس في سبيله.

ففي الوقت الذي يتعيّن علينا أن نقّدر نعمة وجود هذا القائد الفذّ حقّ قدرها ونشكر الله عليها، لابدّ لنا أنّ نقّدر وجود مثل هذا الشعب حقّ قدره ونشكر المولى القدير على أنّنا نعيش بين ظهراني اُناس يمتازون إلى هذه الدرجة بعرفان الجميل، والنضج الاجتماعيّ، والوعي والفطنة، والمناعة ضدّ الحيل والمكائد، بل والتقدّم على الخواصّ في مواطن كثيرة، وفهم ما عجز المختصّون عن إدراكه من الحقائق بعقولهم البسيطة. هذه الخصائص لعمري هي من عظيم الآلاء والنعماء التي وهبها الله لشعبنا، وإنّ من واجبنا أن نشكر هذه النعمة أيضاً. إنّ ما ينبغي أن يثير في نفوسنا القلق هو أن لا نقصّر نحن في أدائنا لتكليفنا الشرعيّ.

نسأل المولى العليّ القدير أن يطيل في عمر قائدنا العزيز، ويزيد في توفيقاته، ويضاعف من بركات وجوده، وأن يوفّقنا لتقدير كلّ هذه النعم حقّ قدرها، لاسيّما نعمة وجود وليّ أمرنا العزيز، والتوفيق لتقديم الخدمات التي تحظى بقبول الباري سبحانه وأوليائه؛ إن شاء الله.

برتو: سؤال أخير: عند مطالعتنا لكتاب «صحيفة النور» [الذي يجمع كلمات وخطابات الإمام الخمينيّ الراحل (رضوان الله تعالى عليه)] نشاهد أنّ سماحته يؤكّد تأكيداً مبرماً على مسألة «الثقافة»، فقد تكرّرت هذه الكلمة في هذا الكتاب 480 مرّة، هذا بالإضافة إلى تأکيده علي تعابير اُخرى. فأحد توجيهات سماحته كان كما يلي: «لو بلغ بلدنا الإسلاميّ الذروة من الناحية السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، ولم يتقدّم خطوة على الصعيد الثقافيّ، فلن يكون ذلك إلاّ عبثاً في عبث»، فهذا نصّ عبارته، وقد كان سماحته دائم التأكيد على مسألة الثقافة، وقد شخّص المصداق لها أيضاً، ألا وهو: الإسلام الأصيل. وقد حمل الإمام الخامنئي راية الإمام الراحل هذه في التأكيد على قضيّة الثقافة خلال الإحدى والعشرين سنة من عمر قيادته، وقد حدّد هو الآخر «الإسلام المحمّدي الأصيل» كترجمة لكلمة الثقافة المنشودة. ونحن قلّما نجد من يبدي كلّ هذه الحساسيّة تجاه قضيّة الثقافة.

وقد أكّد سماحتكم أيضاً في كلمتكم الأخيرة في اجتماع مجلس الخبراء على مسألة «الثقافة» وواجب العلماء ورجال الدين في هذا العصر. كما وشدّد قائد الثورة أيضاً في كلمته مع الخبراء على هذا الموضوع وعلى تكليف العلماء والحوزات العلميّة في عصرنا الحاليّ بالالتفات إلى التقدّم التقنيّ الذي يشهده العالم. وممّا لا شكّ فيه أنّ التكليف الأساس في هذا المجال يقع على عاتق علماء الدين والحوزات العلميّة، ولعلّ من الأبعاد المهمّة لزيارة قائد الثورة لقمّ المقدّسة هي الجانب الثقافيّ وواجب علماء الدين في هذا الخصوص. ما هو، في نظر سماحتكم، التكليف الملقى على عواتق علماء الدين في هذا المضمار؟ وما هي أسباب هذه الغفلة الشديدة عن الجانب الثقافيّ بعد مضيّ 31 عاماً من عمر الثورة ومع كلّ هذه التأكيدات من قبل قائد الثورة المعظّم والإمام الراحل (رحمه الله)، في الوقت الذي يشهد العالم فيه هذا التطوّر التقنيّ السريع، والاستغلال الشديد للأعداء لهذه التقنيّة في الإدلاء بدلوهم وإلقاء شبهاتهم؟ أحقّاً ليس هناك من سبيل لتنفيذ مطالب سماحة قائد الثورة والإمام الراحل على أرض الواقع؟

آية الله مصباح: إنّها لقضيّة معقّدة وأنا أصغر من أن أستطيع تقديم خطّة عمل في هذا المجال، أو أن أخطو خطوة على طريق حلّ هذه المشكلة. لكن يبدو لي أنّه ينبغي القيام بعدّة خطوات على هذا الصعيد: أوّلاً لابدّ أن نعلم أنّ القيام بهذه المهمّة على النحو المطلوب والمقبول ليست هي وظيفة مؤسّسة خاصّة، أو جهة معيّنة، أو شريحة من المجتمع بعينها؛ فلهذا العمل أبعاد مختلفة تُقسّم بين الحكومة والشعب؛ كما أنّ واجبات الشعب تتشعّب إلى شُعب متعدّدة أيضاً. بالطبع القسم الأعظم من هذه الواجبات يتمثّل في تقديم المادّة الثقافيّة الصحيحة، وهذه وظيفة علماء الدين، إلاّ أنّه ليس بمقدور علماء الدين القيام بذلك بمفردهم؛ إذ صحيح أنّ تقديم مثل هذه المادّة كما أكّد قائد الثورة المعظمـ هو من وظيفة علماء الدين، لكنّ تمهيد الأرضيّة لذلك فهو يقع على مؤسّسات الدولة.

وبناء عليه فإنّ ايصال هذه القضيّة إلى نهاية المطاف ليس بالأمر السهل؛ فهو عمل من شأنه أن يُنْزِل جميع مؤسّسات النظام الإسلاميّ إلى وسط الميدان، والحقّ هو هذا. والسبب هو أنّ الأساس الذي ارتكزت عليه هذه الثورة هو الإسلام، والإسلام لا يعدو كونه مسألة ثقافيّة؛ أي هو مجموعة من المعتقدات والقيم. فليس من العجب أن تجرّ قضيّة كهذه كلّ أجهزة النظام إلى اقتحام ميدان عمل مشترك. فالهدف الأساسيّ هو هذا أصلاً؛ ولا أقصد هدفنا وهدف الثوريّين فحسب، بل هو الهدف الأساسيّ لجميع الأنبياء.

أمّا السبب في عدم تقدّم هذا العمل فله علل شتّى؛ وبصرف النظر عن السبب العامّ والأساسيّ، ألا وهو عرقلة الشيطان الذي أقسم على الوقوف في وجه كلّ تقدّم وازدهار لبني البشر، سواء بنفسه أو بمعونة أعوانه وأوليائه، أقول بصرف النظر عن كلّ ذلك فهناك عوامل اُخرى تعيق تقدّم هذا العمل. فلابدّ من تشخيص هذه العوامل وأن يجتهد الجميع، كلٌّ بحسب وسعه وطاقته، في تذليل الموانع وتدعيم عوامل النموّ والازدهار الثقافيّ.

وهنا أطرح أحد هذه الأمور التي تتقدّم على باقي القضايا من حيث البحث المنطقيّ. أساساً إنّ مدلول مصطلح «الثقافة» والمراد من «العمل الثقافيّ» ليس واضحاً للكثيرين. كما تعلمون فإنّه قد اُعدّت برامج ثقافيّة في مختلف أنحاء البلاد وفي مؤسّساتها ووزاراتها المختلفة، وقد رُصدت ميزانيّات لنشاطات معيّنة كالموسيقى، والرياضة، والسينما، والمسرح، وما إلى ذلك. لكن يا ترى هل هذا هو ما نرمي إليه من العمل الثقافيّ؟ فإذا سألت: لماذا لا تقومون بنشاطات ثقافيّة؟ قيل لك: هذه هي النشاطات الثقافيّة؛ أفيكون العمل الثقافيّ غير هذا؟ أنا أقولها بصراحة إنّ هذه الاُمور يتمّ تبنّيها كذريعة في الكثير من المواطن؛ بمعنى أنّهم لا يريدون أصلاً القيام بالعمل الأساسيّ؛ فتراهم يطلقون عنوان «الثقافيّ» على بعض الامور، ويسعون جدّياً في تنفيذها ليخدعوا الناس في سبيل تمرير أغراضهم ومخطّطاتهم وتنفيذها على الأرض. فهذا الضعف موجود في بعض أفراد الشعب وعند بعض المسؤولين.

القضية الثانيّة هي أنّ اولئك الذين يرغبون فعلاً في إشاعة الثقافة الصحيحة والحريصين على هذا الأمر تجدهم يهابون عظمة هذا العمل وثقل مسؤوليّته؛ ذلك أنّ ثقل هذا الأمر إنّما يُقاس بثقل الثورة الإسلاميّة نفسها. فالثورة التي أسقطت نظام الشاه كانت ثورة سياسيّة، لكنّ هذه الثورة هي ثورة ثقافيّة؛ بل هي أثقل وأعمق وأخطر من الثورة السياسيّة في بعض جهاتها. فإنْ خطر ببال بعض مسؤولي البلاد التصدّي لهذا الأمر، فسيتبادر إلى ذهنه السؤال التالي: أنّى لي أن أنهض بأمر نهض به شعب بقيادة شخص كالإمام الراحل مع كلّ تلك التضحيات والشعارات والحماس والمشاعر؟! إنّه حقّاً لعمل عظيم، ومن الطبيعيّ أن يهاب عظمته كلّ امرئ ويخلي كاهله من مسؤوليّة النهوض به.

كما أنّ هناك من الأشخاص ممّن في يده بشكل أو بآخرـ فعل شيء في هذا المجال؛ لكنّه يرى أنّه بإنجازه لهذا العمل سيفقد بعض مقرّبيه أو ينقص من مقدار أصواتهم له في الانتخابات. فلمّا كانت نتائج هذه الأعمال طويلة الأمد، وغير ظاهرة للعيان بما يكفي، ولن تشكّل حافزاً للناس للتصويت لمن يقوم بها، فهم يحدّثون أنفسهم: لماذا نضيّع أوقاتنا بهذه الأعمال؟ فلنركّز جهودنا على الأعمال التي تُلفت أنظار الجماهير، كي نحظى بالمزيد من أصواتهم في الانتخابات. فلماذا نهدر وقتنا فيما ليس فيه هذه الفائدة.

ومن ناحية اُخرى فإنّ النزعات الحيوانيّة عند بعض الأشخاص تتعارض مع ازدهار الثقافة الإسلاميّة، فأمثال هؤلاء يعلمون أنّ تطوّر الثقافة الإسلاميّة يحول دون تمتّعهم بشهواتهم وملذّاتهم، بل ويجرّ عليهم الاتّهامات من قبل بعض الدول بالرجعيّة والتخلّف. فهؤلاء يحدّثون أنفسهم: لماذا نسعى لخلق المشاكل لأنفسنا؟ ولهذا السبب فعندما يتوقّع الناس إنجاز عمل ثقافيّ يطرحون المسرح والسينما وأمثالها على أنّها أعمال ثقافيّة.

أمّا البعض الآخر فيقول: إنّ هذا العمل هو مسؤوليّة علماء الدين، ولابدّ لهم أن يبذلوا جهوداً على هذا الصعيد، ونحن على استعداد لأن نمدّ لهم يد العون.

أمّا فيما يخصّ أوساط علماء الدين فهناك بعض العوامل التي تقف أمام تقدّم العمل الثقافيّ، منها ما هو مرتبط بقلّة الوعي عند بعض علماء الدين ممّن يتصوّر أنّ وظيفة عالم الدين تنحصر في الفقه والاُصول، وكتابة الرسالة العمليّة، وتقاضي الحقوق الشرعيّة غافلين عن أنّ العمل الثقافيّ هو وظيفتنا نحن علماء الدين أيضاً.

فإحدى سبل العمل في الاتجاه الثقافيّ الإسلاميّ هو السعي لصياغة نصوص دراسيّة جامعيّة في مختلف فروع العلوم الإنسانيّة لنستطيع عن هذا الطريق خلق تغيير ثقافيّ ملموس. ولن نستطيع تأليف كتاب دراسيّ ووضعه في مقابل كتاب الفيلسوف الغربيّ الفلانيّ، الذي ما زال يدَرَّس في الجامعات منذ عشرات السنين، إلاّ بعد أن نكون قد بذلنا جهوداً في هذا الحقل العلميّ بمقدار ما بذلوا، وسَبَرنا غور كلّ خفاياه كي نتمكّن، من حيث الظاهر ومن حيث العمق معاً، أن نُعدّ مباحث ومواضيع قيّمة يمكن أن تحلّ محلّ سابقتها وتملأ الفراغ فيها، وهذا عمل صعب للغاية ولعلّ صعوبته هي التي تشكّل أحياناً عائقاً أمام الإقدام على أوّل خطوة.

فمجموع هذه العوامل هو الذي يؤدّي إلى بقائنا على ما نحن عليه. ومن أجل الخروج من هذه الحالة لابدّ من اُناس مضحّين يضعون الدعة والراحة جانباً، ويغضّون الطرف عن لذائذ عيشهم، ومصالح دنياهم، والمناصب والمقامات كالمجاهدين في خطّ النار الذين يشقّون صفوف العدوّ في ميدان المعركةـ وينهمكون في البحث والتحقيق، ويعملون على تنشئة كوادر متخصّصة، ويُعدّون خططاً تمكّنهم في فترة زمنيّة أقصاها عشر سنوات من تربية وإعداد أساتذة متضلّعين قادرين على إنجاز ما نصطلح عليه اليوم عمليّة أسلمة العلوم الإنسانيّة.

فكلّما قويت هذه الجبهة، وتظافرت الجهود في هذا المجال، ومُدّ المشتغلون في هذا المشروع بمزيد من الدعم، وضاعفوا من هممهم ونشاطهم، وشَدّ الآخرون أيضاً على أيديهم، فسنقترب أكثر من هذا الهدف المنشود؛ أمّا أن نتوقّع تحقّق هدف ضخم كهذا في أمد قصير، ومن خلال ميزانيّة تُرصَد من قبل الحكومة، فهو توقّع ليس في محلّه أبداً.

وصلّى الله على محمّد وآل محمّد

آدرس: قم - بلوار محمدامين(ص) - بلوار جمهوری اسلامی - مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمينی(ره) پست الكترونيك: info@mesbahyazdi.org