قال علي عليه‌السلام : إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا؛ امير مومنان عليه‌السلام مي‌فرمايند: همانا براي شما بهايي جز بهشت نيست، پس به کمتر از آن نفروشيد. (نهج‌البلاغه، حکمت456)

 

المرحلة الحادية عشر

الفصل الأوّل

351 ـ قوله «في تعريف العلم»

الغرض من هذا الفصل كما صرّح به في عنوانه بيان ثلاثة اُمور: تعريف العلم، وانقسامه الأوّليّ، وهو انقسامه إلى الحصوليّ والحضوريّ، وبعض خواصّه وهو تجرّده. أمّا مطلب «ما» الشارحة و«هل» البسيطة فهما واضحان في مورد العلم، لبداهة مفهومه، وضرورة وجوده. فبالعلم يُعرف كلُّ شيء، فكيف لا يكون نفسه معروفاً؟ وبالعلم يُثبَت وجود كلّ شيء فكيف يكون وجوده مجهولاً؟ وأمّا المراد بتعريفه فليس تعريفاً بالجنس والفصل، لأنّ العلم بمعناه العامّ ليس من قبيل المهيّات، لوجوده في الواجب تعالى أيضاً، مضافاً إلى أنّ المفهوم البديهيّ لا يحتاج إلى تعريف، بل لا يمكن تعريفه مطلقاً.(1) بل المراد ذكر أخصّ خواصّه، وهو ما سيأتي في آخر الفصل.

وابتدأ(قدس‌سره) بتقسيم العلم إلى الحصوليّ والحضوريّ، وعرّف الأوّل بالعلم بمهيّات الأشياء، والثاني بالعلم بوجوداتها. لكنّ الأحسن تعريف الحصوليّ بالعلم غير المباشر وبوساطة الصورة العلمية، وتعريف الحضوريّ بالعلم المباشر وبلا وساطتها. لأنّ العلم الحصوليّ لا ينحصر في العلم بالمهيّات، فلنا علوم بالوجودات


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌278.

وبالواجب تبارك وتعالى تتمثّل في المعقولات الثانية، وهي علوم حصوليّة، ولو كان العلم الحصوليّ مختصّاً بالمهيّة لَما تعلّق بما لا مهيّة له كالواجب الوجود.

ولمّا كان البحث عن الوجود الذهنيّ ـ الذي مرّ في المرحلة الثالثة ـ في الواقع بحثاً عن العلم الحصوليّ، قدّم ذكر الحصوليّ بالإشارة إلى ما مرّ في تلك المرحلة. ثمّ جاء إلى العلم الحضوريّ ليُثبته من طريق بعض مصاديقه الحاصلة لنا بالوجدان، وهو علمنا بأنفسنا ووجود هذا العلم وإن كان بديهيّاً إلاّ أنّه لمّا كان من المحتمل أن يحصل خطأ في تفسيره ويُتوهَّم أنّه من قبيل العلوم الحصوليّة، نبّه على ذلك بوجهين(1):

أحدهما أنّ عِلم كلّ أحد بنفسه التي يشير إليها بضمير المتكلّم لو كان علماً بالمهيّة وبوساطة المفهوم لكان ذلك المفهوم في حدّ نفسه قابلاً للصدق على كثيرين، والحال أنّ هذا المعلوم أمر شخصيّ لا ينطبق على غيره بوجه. لكنّه يتمّ بعد إثبات أنّ ذلك المفهوم لابدّ وأن يكون مفهوماً كلّياً وليس من قبيل المفاهيم الجزئيّة، فإنّ المفهوم أعمّ من الكليّات، ولهذا يقع مقسماً للكلّي والجزئيّ. كما أنّ المهيّة التي تكون متعلّقة لمطلق العلوم بما فيها الإدراكات الحسيّة والخياليّة لابدّ أن تؤخذ بمعنى يصدق على الجزئيّات، فتفطّن.

وثانيهما أنّه لو كان هذا العلم علماً بالمهيّة دون الوجود الشخصيّ للنفس كان لازمه أن تكون للنفس مهيّة قائمة بوجودها العينيّ، ومهيّة اُخرى قائمة بالذهن الذي هو أيضاً من مراتب وجودها العينيّ، فكان لها مهيّتان قائمتان بوجود واحد، ويمتنع ذلك لأنّه من قبيل اجتماع المثلين.

ويرد عليه النقض بالعلم الحصوليّ بالنفس، فإنّه ليس لأحد إنكار ذلك زائداً على العلم الحضوريّ بها. والحلّ أنّ هذا الاجتماع ـ بعد قبول امتناعه في الجملة


1. راجع: نفس المصدر،ص‌‌288ـ289؛ وج6: ص‌‌156ـ164؛ وراجع: حكمة الإشراق: ص‌‌111؛ والتحصيل: ص‌‌808؛ والتلويحات: ص‌‌70؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌484؛ والتعليقات: ص‌‌79 و ‌‌147 و 148 و 160ـ161 و 162.

إنّما يلزم إذا كانت المهيّتان قائمتين بمرتبة واحدة من الوجود، وفي ما نحن فيه ليس كذلك، فإنّ إحداهما قائمة بنفس الوجود، وثانيتهما قائمة بمرتبة خاصّة منها يعبّر عنها بالذهن. والقيام بهما ليس على نهج واحد، فإنّ المهيّة القائمة بالوجود هي مهيّة ذلك الوجود لكنّ المهيّة القائمة بالذهن ليست هي مهيّة الذهن ولا متّحدة به اتحاد المهيّة بالوجود، وإنّما هو مفهوم حاصل له يحمل عليه النفس بالحمل الأوّليّ فقط، ولا يحمل عليه الذهن بوجه.

ثمّ إنّه يمكن التنبيه على ضرورة العلم الحضوريّ بأنـّه إذا كان المعلوم بالعلم الحصوليّ معلوماً بوساطة الصورة العلميّة يجب أن تكون تلك الصورة الواسطة معلومة بنفسها دفعاً للتسلسل، فالعلم بها يكون بلا وساطة، وهو العلم الحضوريّ.

352 ـ قوله «انّ الحصوليّ منه ينتهي إلى علم حضوريّ»

يمكن أن يراد بهذه العبارة ثلاثة معانٍ: أحدها أنّ كلّ علم حصوليّ لابدّ وأن يكون مأخوذاً عن معلوم حضوريّ، بدعوى أنّ العلم الحصوليّ صورة ولا يمكن أخذ الصورة إلاّ بحضور ذي الصورة، ولو أمكن لم يعلم مطابقتها لها. لكنّ الكلّية ممنوعة، فمن الجائز أن تحصل صورة علميّة بلا فعّاليّة من النفس نظير ما يحصل من الصور في المرائي، ويعلم المطابقة من البرهان.

وثانيها أنّ كلّ صورة علميّة لابدّ وأن يكون نفسها معلومة بالعلم الحضوريّ. وهذا ما أشرنا إليه آنفاً عند الكلام في ضرورة وجود العلم الحضوريّ. لكنّه لا يزلزل موقع العلم الحصوليّ بل يثبّته.

وثالثها أنّ ما نعتبره علماً حصوليّاً كاشفاً عن المعلومات بالعرض هو في الواقع علم حضوريّ كاشف عن المعلومات بالذات فقط، وكاشفيّته عمّا وراءه إنّما هو باعتبار من العقل. فالعلم الحصوليّ اعتبار يضطرّ إليه العقل ـ على حدّ تعبيره الآتي

وهذا هو الذي يرومه بهذه العبارة ويرمي إليه. وبهذا الصدد يقدّم البحث عن تجرّد العلم.

353 ـ قوله «بيان ذلك...»

شروع في إثبات تجرّد العلم، وهو أخصّ خواصّه. وقد عقد في الأسفار فصلاً لنقل كلمات القوم حول حقيقة العلم ونقدها.(1) ومن جملتها أنّ التعقّل عبارة عن حضور صورة مجرّدة عن المادّة عند موجود مجرّد عن المادّة. وقال في نقده: «وبالجملة فهو يوجب الاعتراف في ظاهر الأمر بأنـّه ليس الإدراك نفسَ حضور الصورة».(2) ثمّ قال: «وأمّا المذهب المختار ـ وهو أنّ العلم عبارة عن الوجود المجرّد عن المادّة الوضعيّة ـ فَتَرِدُ عليه أيضاً إشكالات كثيرة في ظاهر الأمر، ولكن كلّها مندفعة عند إمعان النظر» ثمّ أخذ في بيان الإشكالات ودفعها.(3) ثمّ عالج تبيين مذهبه بقوله: «العلم ليس أمراً سلبيّاً كالتجرّد عن المادّة، ولا إضافيّاً، بل وجوداً، ولا كلّ وجود بل وجوداً بالفعل لا بالقوّة، ولا كلّ وجود بالفعل بل وجوداً خالصاً غير مشوب بالعدم، وبقدر خلوصه عن شوب العدم يكون شدّة كونه علماً ـ إلى أن قال ـ فلا علم لأحد بشيء من الجسم وأعراضه اللاحقة إلاّ بصورة غير صورتها الوضعيّة المادّية التي في الخارج».(4)

ثمّ تعرّض لوجوه الفرق بين حضور الصورة الإدراكيّة للنفس وبين حصولها في المادّة، وهي ثمانية أوجه.(5) وقال في موضع آخر: «الحقّ كما سبق أنّ العلم عبارة


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌284ـ296؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌319ـ332؛ وراجع: النمط الثالث من شرح الإشارات؛ وراجع: التلويحات: ص‌‌68؛ والمطارحات: ص‌‌474489.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌290.

3. نفس المصدر: ص‌‌292ـ296.

4. نفس المصدر: ص‌‌298.

5. نفس المصدر: ص‌‌300ـ304؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌332.

عن وجود شيء بالفعل لشيء، بل نقول: العلم هو الوجود للشيء المجرّد عن المادّة، سواء كان ذلك الوجود لنفسه أو لشيء آخر، فإن كان لغيره كان علماً لغيره، وإن لم يكن لغيره كان علماً لنفسه».(1)

وجدير بالذكر أنّه صرّح في مواضع اُخرى بسريان العلم والحبّ في جميع الموجودات،(2) ولا يتيسّر الجمع بينهما إلاّ بتكلّف، فليتأمّل.

والحاصل أنّ العلم عند صدر المتألّهين هو نحو الوجود المجرّد عن المادّة، ولهذا فهو يرى أنّ المعقوليّة أمر ذاتيّ للصورة العقليّة، وكذا المحسوسيّة للصورة الحسيّة، والمتخيَّلية للصورة الخياليّة. ومن هنا يقيم برهاناً على اتّحاد العالم والمعلوم، وسيأتي الكلام فيه. وكذا يرى المعلوميّة مساوقةً للتجرّد، ولهذا قال في كلامه الذي مرّ ذكره أنّه لا علم لأحد بشيء من الجسم وأعراضه إلا بصورة غير صورتها الماديّة.

لكن في كلا الأمرين نظر، ويشبه أن يكون تحقّق العلم خاصّاً بالموجود المجرّد الذي وجوده لنفسه،(3) فالجوهر الجسمانيّ لا يكون عالماً لعدم تجرّده، والعرض لا يكون عالماً لعدم كون وجوده لنفسه وإن فرض مجرّداً كما في الكيف النفسانيّ. وكذا يشبه أن يكون شرط تجرّد المعلوم خاصّاً بالعلوم الحصوليّة، وأمّا علم العلّة بالمعلوم علماً حضوريّاً فيمكن تعلّقه بالموجود المادّيّ بما أنّه مادّيّ. والإشكال بأنـّه لا حضور للموجود المادّي لنفسه فكيف يكون حاضراً للعالِم؟ مندفع بأنّ غيبوبة أجزائه بعضها عن بعض لا تنافي حضورها للفاعل المفيض، كما أنّ تفرّق الزمانيّات لا ينافي اجتماعها في وعاء الدهر. وستأتي تتمّة للكلام عند البحث عن علم الواجب تبارك وتعالى إن شاء الله العزيز.


1. نفس المصدر: ص‌‌354.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌235ـ239؛ وج7؛ ص‌‌148ـ168.

3. راجع: التعليقات: ص‌‌60 و 69 و 77 و 78 و 189؛ وراجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌165ـ167.

وكيف كان فالصورة العلميّة التي هي عماد العلوم الحصوليّة مجرّدة عن المادّة، وتوجد في كلمات القوم إشارات إلى ذلك،(1) وإن كان تركيزهم على الصورة العقليّة. وقد استدلّ سيّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) على تجرّدها مطلقاً بوجهين، ويمكن استفادة وجه ثالث من أواخر كلامه، وسنشير إليه.

الوجه الأوّل: أنّ الصورة العلميّة أمر بالفعل، ولا يعقل لها قوّة تخرج عنها بالحركة، وتكون في ما بين القوّة والفعل غير متّصفة بالمعلوميّة ولا باللامعلوميّة، كما لا يتصوّر لها إمكان التبدّل إلى صورة اُخرى. وما يتوهّم من التغيّر والتحوّل فيها فإنّما هو بحدوث صورة جديدة. وما هذا شأنه لا يكون أمراً مادّياً.

الوجه الثاني: أنّ الصورة العلميّة فاقدة للخواصّ اللازمة للمادّة، وهي الانقسام والمكان والزمان. فإنّ الأمر المادّيّ سواء كان جوهراً أو عرضاً حالّاً فيه يقبل الانقسام إمّا بالذات كالكم، وإمّا بالتبع كالجوهر الجسمانيّ وسائر أعراضه، فيصحّ أن ينقسم إلى جزئين بانعدام الكلّ وتبدّله إلى شيئين آخرين. والصورة العلميّة ليست كذلك، أمّا الصور العقليّة والمعاني الجزئيّة فواضح، وأمّا الصور المقداريّة فإنّها وإن لم تفقد بعض آثار المادّة إلاّ أنّها لا تتجزّأ إلى الأجزاء بالفعل كالاُمور المادّية، وتصوُّر الأجزاء لها إنّما هو بحدوث صور اُخرى لا بتبدّل الكلّ إليها. ولا تكون أجزاؤها المفروضة أجزاء العلم بحيث يكون نصفُها نصفَ العلم وثلثُها ثلثَه وهكذا.

وكذلك كلّ أمر مادّي يصحّ نسبتها إلى المكان ويمكن الإشارة الحسيّة إليه، والصورة العلميّة ليست كذلك، كما أنّ وجودها ليس تدريجيّاً منطبقاً على الزمان ولا متغيّراً بتغيّره.


1. راجع: التحصيل: ص‌‌745؛ وراجع: الفصل الثاني من المقالة الثانية من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌475487 و 493497.

354 ـ قوله «فإن قلت...»

حاصل الإشكال أنّ ما ذكر من عدم وجود خواصّ المادّيات في الصورة العلميّة ممنوع، أمّا الانقسام فلإمكان عروضه لها بعرض المحلّ بأن تفرض الصورة العلميّة منطبعة في محلّ مادّيّ فتنقسم بانقسامه. وأمّا النسبة إلى المكان فلما ثبت في العلوم الطبيعيّة من اختصاص كلّ جزء من أجزاء الدماغ بنوع من الإحساس، بحيث يختلّ ذلك الإحساس باختلال الجزء الدماغيّ الخاصّ به. وأمّا النسبة إلى الزمان فلحدوث كلّ إدراك في زمان معيّن.

وحاصل الجواب أنّ انطباع الصور الإدراكيّة في الأعضاء الحسيّة أو الجهاز العصبيّ والمخّ ممتنع، لاستلزامه انطباع الكبير في الصغير.(1) ولا يجدي القول بأنّ الصورة المنطبعة صغيرة في نفسها وإنّما يعلم مقدار ذي الصورة بالمقايسات، لأنّ ما يدرك أخيراً ولو كان ذلك بعد حصول المقايسات هو صورة كبيرة لا يمكن انطباعها في جسم صغير، وليس إدراك الصورة الكبيرة مركّباً من إحساس صورة صغيرة وعلم آخر بمقدارها الواقعيّ، كما هو واضح بالوجدان.(2)

وأمّا ما ثبت بالتجارب العلميّة من ارتباط كلّ نوع من الإحساس بجزء خاصّ من الدماغ مثلاً فلا يعني انطباع الصورة الإدراكيّة فيه، بل معناه كون ذلك الجزء آلة للإحساس، وبتأثّره بالتفاعلات الفيزيائية ـ الكيمياويّة، تستعدّ النفس للإدراك. والنسبة الزمانيّة أيضاً تحصل بمقارنة تلك التفاعلات المادّية للزمان.

وأخيراً استدلّ على عدم زمانيّة الصورة الإدراكيّة ببقائها بعينها وتذكّرها بعد سنين متطاولة، والاُمور الزمانيّة لا تبقى بعينها لتدرّج وجودها.

ويمكن استفادة دليل آخر على تجرّد الإدراك، وهو أنّ المادّة البدنيّة وحتّى المادّة


1. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌299؛ وج8: ص‌‌178ـ179 و 230ـ241.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌100.

العصبيّة تتحوّل بالتحلّل وجذب موادّ غذائيّة جديدة، فلو كانت الصورة العلميّة حالّة فيها وكانت هي المدرِكة لها لتغيّر الإدراك بتغيّر المحلّ المدرِك. ولا يجدي فرض تماثل الصور المتناوبة، لعدم بقاء ما يدرِك تلك الصور ويدرك تماثلها.

وأيضاً إذا قايسنا بين صورتين، سواء كانتا متماثلتين أو متخالفتين، وسواء كانتا متزامنتين أو غير متقارنتين في زمان حدوثهما، لزم وجودهما لمدرِك واحد، ولا يستقيم ذلك بالانطباع، لأنّ كل جزء من الدماغ مثلاً إنّما يدرِك ـ على الفرض ـ ما ينطبع فيه خاصّةً، ولا خبر له عن ما يدرِك الجزء الآخر حتّى يقايس بينهما. فالصور العلميّة اُمور مجرّدة قائمة بالنفس المجرّدة، وهي التي تدركها وتقايس بينهما، وتحكم بتماثلها أو تخالفها.

355 ـ قوله «فقد تحصّل بما تقدّم»

بعد ما أثبت(قدس‌سره) تجرّد الصور العلميّة رجع إلى ما أشار إليه من انتهاء العلم الحصوليّ إلى الحضوريّ فقال: «إنّ الصورة العلميّة بما أنّها مجرّدة تكون أقوى وجوداً من الماديّات، فمرتبة وجودها فوق مرتبة الماديّات، والتشكيك في مراتب الوجود يقتضي كون العالي علّةً للسافل وكون المجرّد علّةً للمادّيّ، فالصور العلميّة في الحقيقة هي مبادئ وجود الماديّات وعللها المفيدة لها، والعلم يعنى شهودها. لكن قد تكون المشاهدة عن قُرب، كما في المشاهدات العرفانيّة، وقد تكون عن بُعد، كما في العلوم العاديّة، فهي أيضاً علوم حضوريّة إلاّ أنّها تحصل لمن لم يصل بعدُ إلى قرب تلك الحقائق المجرّدة بحيث يستطيع مشاهدتها عن قريب».(1)

فالعلم سواء كان إحساساً أو تخيّلاً أو تعقّلاً إنّما هو مشاهدة اُمور مجرّدة عن المادّة، تجرّداً مثاليّاً كما في الإحساس والتخيّل، أو تجرّداً عقلانيّاً كما في التعقّل. وإنّما


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌287ـ291.

ينسب إلى الماديّات لكونها آثار وجود تلك المجرّدات، ولاشتراكها معها في المهيّة. فما يسمّى علماً حصوليّاً بالماديّات لا حقيقة له، بل إنّما هو علم حضوريّ بالاُمور المجرّدة، وينسبه العقل إلى الماديّات اعتباراً. والداعي إلى هذا الاعتبار هو احتياج الإنسان إلى الاتّصال بالمادّيات والانتفاع بها، فيضطرّ العقل إلى ذلك الاعتبار.

وهذا الاتّجاه هو الاتّجاه الأفلاطوني(1) إن لم يكن أبعد مدى منه، وسيأتي منه في الفصل العشرين من المرحلة الثانية عشر الإشكال في إثبات المُثُل الأفلاطونيّة. اللّهمّ إلاّ أن يؤوّل كلامه ههنا بوجود الاُمور العقليّة على نعت البساطة في عقل واحد، فليتأمّل.

ثمّ إنّ صدر المتألّهين ذهب إلى أنّ الإدراك الحسّيّ والخياليّ يحصل في المرتبة المثاليّة للنفس لا في المثال الأعظم البرزخيّ، على خلاف ما ذهب إليه الشيخ الإشراقيّ، فالمدرَكات الجزئيّة هي صور قائمة بالنفس لا مستقلّة عنها، وبهذا يفترق الإدراك العاديّ عن المشاهدة العرفانيّة. واستدلّ على ذلك بأنّ النفس ربما تتصوّر صوراً قبيحة وجزافيّة لا يصحّ إسنادها إلى الحكيم، فهي ليست إلاّ من شيطنة القوّة المتخيّلة، وحيث لا فرق بين إدراكها وإدراك سائر الصور فهي كلّها موجودة في صقع النفس.(2)

ويمكن تعميم هذا الإشكال إلى المفاهيم العقليّة أيضاً بالنظر إلى وجود المفاهيم العدميّة والاعتباريّة والمفاهيم الكليّة المأخوذة من الصور القبيحة، فينتج أنّ الإدراكات العقليّة أيضاً حاصلة في المرتبة العقليّة للنفس لا في العالَم العقلّي المستقلّ، فهي ليست إلاّ مفاهيم قائمة بالنفس.


1. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌507.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌303؛ وراجع: تعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌132؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌495.

و كيف كان، فيلاحظ على ما استدلّ به لكون الاُمور المعلومة عللاً فاعليّة للمادّيات أنّ تجرُّد الصور العلميّة لا يكفي دليلاً على كونها في سلسلة العلل، فلعلّها من قبيل الكيفيّات النفسانيّة المجرّدة الحاصلة للنفس، وليست عللاً مفيدة لأيّ شيء. وإنّما الذي يقع في سلسلة العلل المفيدة هو المجرّد التامّ الذي لا تعلّق له بالمادّة بنحو من الأنحاء ولو كان بوساطة النفس.

والحاصل أنّ الصور العلميّة ـ سواء كانت عقليّة أو خياليّة أو حسيّة ـ صور مجرّدة حاصلة للنفس قائمة بها لا استقلال لها دون النفس، ومشهودة لها شهوداً حضوريّاً، وتفترق عن سائر الكيفيّات النفسانيّة بخاصّة ذاتيّة لها هي مرآتيّتها لماوراءها، فإذا نُظر إليها كانت معلومة بالعلم الحضوريّ، وإذا نظر فيها كانت علوماً حصوليّة للمعلومات الخارجيّة. فالصور أنفسها معلومات بالذات علماً حضوريّاً، والأشياء الخارجيّة معلومات بالعرض بوساطة تلك الصور علماً حصوليّاً. فانتهاء العلوم الحصوليّة إلى الحضوريّة إنّما يصحّ بالمعنى الثاني من المعاني المذكورة تحت الرقم (353) ولا يقتضي كون نسبة العلم إلى الأشياء الخارجيّة اعتباريّة، فتبصّر.

356 ـ قوله «غير ناقص من حيث بعض كمالاته الممكنة له»

لابدّ من تأويل لهذه العبارة بما يرجع إلى حضور الذات لذاتها، لأنّه إن اُريد بالكمالات الممكنة ما يعمّ الكمالات الثانية كما هو الظاهر فهي غير حاصلة لجميع النفوس، وإن اُريد بها خصوص الكمالات الأوّليّة المقوّمة للنوع فهي لا تختصّ بالمجرّدات، بل الأنواع المادّية أيضاً واجدة لها، كما أنّها واجدة لبعض كمالاتها الثانية.

ثمّ إنّه بالنظر إلى ما مرّ يمكن أن يعرَّف العلم بحضور شيء بذاته أو بصورته المجرّدة عند الموجود المجرّد الذي وجوده لنفسه. مع تفسير حضور الشيء بما يعم حضور العالِم عند نفسه أوّلاً، وبما يعمّ حضور المادّيات لعللها المفيضة ثانياً.

الفصل الثاني

357 ـ قوله «في اتّحاد العالم بالمعلوم»

لا ريب أنّ علم المجرّد بذاته ليس أمراً خارجاً عن ذاته فهو عالم ومعلوم وعلم. وهذا ممّا اتّفق عليه الحكماء وأمّا علمه بغيره فالمشهور عندهم أنّه يتحقّق بحصول صورة علميّة للعالم، لكن اختلفت كلماتهم في تفسير هذا الحصول وبيان الفرق بينه وبين سائر أنواع الحصول والوجود للغير، والذي يستفاد من كلمات الشيخ وأتباعه أنّه نحو من وجود العرض للموضوع، والفرق يرجع إلى التجرّد وعدمه، فالموضوع المجرّد يصير عالماً بالصورة الحالّة فيه لأجل تجرّده بخلاف الموضوعات الجسمانيّة.

وهذا البيان لم يُقنع شيخ الإشراق وصدر المتألّهين. فقال الأوّل في التلويحات: «وكان يصعب عليّ مسألة العلم، وما ذكر في الكتب لم يتنقَّح لي»(1) ثمّ نقل مكاشفة له رأى فيها المعلم الأوّل وسأله عن مسائل العلم، وانتهى رأيه إلى أنّ العلم إضافة إشراقيّة. وقال صدر المتألّهين: «إنّ مسألة كون النفس عاقلة لصور الأشياء المعقولة من أغمض المسائل الحكميّة التي لم تنقّح لأحد من علماء الإسلام إلى يومنا هذا»(2) وانتهى رأيه إلى اتّحاد العاقل بالمعقول وجوداً، وأنّ حصول الصورة العلميّة للعالم شبيه بحصول الصور الجسمانيّة للمادّة.(3)

وقد حُكي القول باتّحاد العاقل والمعقول عن بعض القدماء. قال الشيخ في الإشارات: «إنّ قوماً من المتصدّرين يقع عندهم أنّ الجوهر العاقل إذا عقل صورة


1. راجع: التلويحات: ص‌‌70ـ74.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌312.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌319.

عقليّة صار هو هو ـ إلى أن قال ـ وكان لهم رجل يعرف بـ «فُرفوريوس» عمِل في العقل والمعقولات كتاباً يُثني عليه المشّاؤون، وهو حَشَفٌ كلّه. وهم يعلمون من أنفسهم أنّهم لا يفهمونه ولا فرفوريوس نفسه. وقد ناقضه من أهل زمانه رجل، وناقض هو ذلك المناقض بما هو أسقط من الأوّل».(1) وقال في الشفاء: «وما يقال من أنّ ذات النفس تصير هي المعقولات فهو من جملة ما يستحيل عندي، فإنّي لست أفهم قولهم أنّ شيئاً يصير شيئاً آخر، ولا أعقل أنّ ذلك كيف يكون ـ إلى أن قال ـ نعم هذا في شيء آخر يمكن أن يكون، على ما سنفصّله في موضعه».(2)

ولعلّ هذا الموضع الذي أشار إليه هو الفصل السابع من المقالة الاُولى من كتاب «المبدء والمعاد» حيث صحّح القول به في الواجب تبارك وتعالى وبيّنه ببيان طويل نقله في الأسفار ونَقده.(3)

وقال في التعليقات: «كل ما يعقل ذاته فإنّه هو العقل والعاقل والمعقول. وهذا الحكم لا يصحّ إلاّ في الأوّل».(4) ومراده أنّ هذا الاتّحاد في مورد العلم بالغير يختصّ بالواجب تبارك وتعالى، وأمّا في العلم بالنفس فهو حاصل في جميع الجواهر المجرّدة.

وقال في التعليقات أيضاً: «وأمّا ما يقال إنّا إذا عقلنا شيئاً فإنّا نصير ذلك المعقول، فهو محال، فإنّه يلزم أن يكون إذا عقلْنا الباري أن نتّحد به ونكون هو. وهذا الحكم لا يصحّ إلاّ في الأوّل، فإنّه يعقل ذاته، وذاته مبدء المعقولات، فهو يعقل الأشياء من ذاته، وكلّ شيء حاصل له حاضر عنده معقول له بالفعل».(5) ولعلّه أراد بذلك أن يفرّق بين علم الواجب بغيره وعلمنا بغيرنا بأنّ الثاني من قبيل


1. راجع: النمط السابع من الإشارات.

2. راجع: الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌437443.

4. راجع: التعليقات: ص‌‌159.

5. راجع: نفس المصدر: ص‌‌159.

العرض الحالّ في جوهر النفس بخلاف الأوّل،(1) وعليه فينبغي تعميم الاتّحاد إلى علوم المفارقات،(2) فليتأمّل.

ثمّ إنّه أورد في كتبه إشكالات على القول بالاتّحاد، وقد تصدّى في الأسفار للإجابة عليها،(3) كما أنّه أقام برهاناً على الاتّحاد غير ما في المتن سنشير إليه. لكن ينبغي قبل ذلك إلقاء ضوء على مفهوم العبارة، ولعلّه بهذا يندفع كثير من الإشكالات لولا كلّها.

فنقول: المراد بالاتّحاد المعقول بين العاقل والمعقول هو الاتّحاد في الوجود دون المفهوم والمهيّة. فمن البديهيّ أنّ مهيّة العاقل لا تنقلب إلى مهيّة المعقول، ولا مهيّة المعقول تنقلب إلى مهيّة العاقل، كما أنّ اتّحاد مفهومين متبائنين ببعضهما أو اتّحاد وجودٍ بما أنّه وجود بمفهوم بما أنّه مفهوم أيضاً غير معقول.

وأمّا اتّحاد الوجودين فليس المراد به أنّ وجودين اثنين يصيران وجوداً واحداً بعينه، بل المراد ما يشتمل اتّحاد الرابط بالمستقلّ، واتّحاد الرابطيّ بالموضوع. أمّا الأوّل فيجري في كلّ علّة مفيضة للوجود مع معلولها، ويرجع إلى التشكيك الخاصّ في حقيقة الوجود، ومعناه عدم استقلال المعلول دون العلّة وكونه ربطاً محضاً بها. فالاتّحاد بهذا المعنى حاصل في علم العلّة والمعلول ببعضهما علماً حضوريّاً. وأمّا العلوم الحصوليّة فما كان منها من فعل النفس كما في المعقولات الثانية يجري هذا المجرى، وكذا في غيرها عند من يعدّها من فعل النفس. لكن هذا الممشى يختصّ بالقائلين بالتشكيك الخاصّيّ في حقيقة الوجود كصدر المتألّهين وأتباعه.

وأمّا الاتّحاد بالمعنى الثاني فينقسم إلى قسمين: اتّحاد العرض بالجوهر، واتّحاد


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌81؛ وراجع: السادس والسابع من ثامنة إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌573-574.

2. راجع: النجاة: ص‌‌193.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌321ـ335 و 346ـ359 و 427؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌474؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌328ـ331.

الصورة بالمادّة. فكلّ من يقول بأنّ العلم كيف نفسانيّ ويصحّح اتّحاد وجود العرض بوجود الجوهر لا يتحاشي عن اتّحاده بالنفس اتّحادَ العرض بالموضوع، كما صرّح به صدر المتألّهين وأتباعه ومنهم الاُستاذ(قدس‌سره) في مواضع متعدّدة،(1) ولا سيّما على القول بكون العرض من مراتب وجود الجوهر وشؤونه. وحيث إنّ المعلوم بالذات هو الصورة العلميّة فيتمّ القول باتّحاد العلم والعالم والمعلوم بهذا المعنى. لكن يظهر من كلامهم في هذا الباب أنّهم يذهبون إلى أبعدَ من ذلك، ممّا يرجع إلى كون النفس كمادّة للمعقولات، وكونها كصور للنفس تتحصّل بالاتّحاد معها تحصّلاً جوهريّاً جديداً. فلننظر ماذا يفيده البرهان.

قال صدر المتألّهين ما ملخّصه: «إنّ الصورة المعقولة بالفعل وجودها في نفسها ووجودها للعاقل شيء واحد من جهة واحدة بلا اختلاف. فلو فُرض أنّ المعقول بالفعل أمرٌ وجودُه غير وجود العاقل ويكون الارتباط بينهما بمجرّد الحالّيّة والمحلّية لكان يلزم أن يمكن اعتبار وجود كلٍّ منهما مع عزل النظر عن اعتبار صاحبه. لكنّ المعقول بالفعل ليس له وجود آخر إلاّ هذا الوجود الذي هو بذاته معقول لا بشيء آخر. وكون الشيء معقولاً لا يتصوّر إلاّ بوجود عاقل له، فلو كان العاقل أمراً مغايراً له لكان هو في حدّ نفسه مع قطع النظر عن ذلك العاقل غير معقول، لكنّ المعقول بالفعل لا يمكن أن يكون إلاّ معقولاً بالفعل، لأنّ ذلك الكون في نفسه هو بعينه معقوليّته، سواء عقَله غيره أو لم يعقله. وقد مرّ أنّ المتضايفين متكافئان في الوجود في درجة الوجود أيضاً.

وإذا علمتَ الحال في الصورة المعقولة فاعلم أنّ الحال في الصورة المحسوسة أيضاً على هذا القياس ـ إلى أن قال ـ ثمّ إنّهم زعموا أنّ الجوهر المنفعل العقليّ من الإنسان يصادف الصور العقليّة ويدركها إدراكاً عقليّاً، فنقول: تلك القوّة الانفعاليّة بماذا


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌306.

أدركت الصورة العقليّة؟ أتدركها بذاتها المعرّاة عن الصور العقليّات؟ فليت شعري كيف تدرك ذاتٌ عارية جاهلة غير مستنيرة بنور عقليّ صورةً عقليّةً نيّرةً في ذاتها معقولةً صرفةً، والعين العمياء كيف تبصر وترى! وإن أدركتْها بما استنارت به من صورة عقليّة فكانت تلك الصورةعاقلة بالفعل كما كانت معقولة بالفعل ـ إلى أن قال ـ حصول الصورة الجسمانيّة الطبيعيّة للمادّة التي تستكمل بها وتصير ذاتاً متحصّلة اُخرى يُشبه هذا الحصول الإدراكيَّ، فكما ليست المادّة شيئاً من الأشياء المتعيّنة بالفعل إلاّ بالصور فكذلك حال النفس في صيرورتها عقلاً بالفعل بعد كونها عقلاً بالقوّة».(1)

وقد ركّز في هذا البيان على أنّ الصورة العقليّة تكون بذاتها معقولة لا بعروض أمر فيها، فمع قطع النظر عن جميع الأشياء تكون معقولة، ولمّا كانت حيثيّة المعقوليّة هي حيثيّة الوجود للغير (أي للعاقل) فيلزم أن تكون الصورة العقليّة بذاتها عاقلةً لذاتها. وأيضاً لمّا كانت المعقوليّة مفهوماً إضافياً وهي مع ذلك ثابتة لذات الصورة العقليّة لزم أن تكون العاقليّة أيضاً ثابتة لها لتكافؤ المتضايفين. وأخيراً أشار إلى وجه ثالث هو أنّ النفس الفاقدة في ذاتها للصورة العقليّة لا يمكنها أن تدرك تلك الصورة، كما أنّ العين العمياء لا يمكنها أن تُبصر وتَرى، فيجب أن تتّحد بما هي عاقلة لذاتها حتّى تعقلها.

لكن يلاحظ على الوجه الأوّل أنّ وصف المعقوليّة مفهوم إضافيّ غير داخل في ذات شيء من الأشياء ولا منتزع عنها إلاّ باعتبار طرف هو عاقل لها، فالصورة العقليّة إنّما تكون بحيث يمكن أن تصير معقولة، وأمّا فعليّة هذا الوصف فهي رهن لفعليّة وجود العاقل بما أنّه عاقل. فإن ثبت كونها عاقلة لذاتها كما في الجوهر المجرّد اتّصف بالمعقوليّة لذاتها، وإن لم يثبت كما في الصورة التي يكون وجودها للغير فمعقوليّتها إنّما تكون للغير لا لذاتها.


1. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌313ـ320؛ وج6: ص‌‌165ـ168؛ وراجع: تعليقة السبزواري عليه.

ومنه يظهر النظر في الوجه الثاني، فإنّ الذي ينسب إلى الصورة العقليّة بصرف النظر عن الموجود الذي هي حاصلة له هو إمكان المعقوليّة، فيتضايف مع إمكان وجود عاقل له.

وأمّا الوجه الثالث فهو أشبه بالبيان التمثيليّ منه بالبيان البرهانيّ، فلقائل أن يقول: إنّ عاقليّة النفس بالفعل إنّما هي عين قيام الصورة العقليّة بها، فللنفس في ذاتها استعداد العاقليّة، وفعليّتها هي بحصول الصورة العقليّة لها، فهي كالعين المبصرة التي لم تصادف الصورة المرئيّة بعدُ، فإذا صادفتْها صارت مبصرة بالفعل، ولا يستلزم ذلك كون الصورة المرئيّة مبصرة لنفسها.

ثمّ إنّ اعتبار نسبة الصورة العقليّة إلى النفس كنسبه الصورة إلى المادّة لا يفترق عن اعتبارها كنسبة العرض إلى الجوهر في أنّ النفس تستكمل(1) بها، كما أنّهما لا يفترقان في أنّ المفروض في كليهما اتّحاد وجودين ببعضهما، وإنّما يختلف الاعتباران في أنّ الصورة جوهر تتحصّل بها المادّة تحصّلاً جوهريّاً جديداً بخلاف العرض، وإنّما يصحّ ذلك في ما ثبت جوهريّته وجوهريّة الصورة العقليّة مطلقاً ممنوع. بل لقائل أن يقول: إنّ اتّحاد الجوهر بالعرض أوثق من اتّحاد المادّة بالصورة، خاصّةً بالنظر إلى القول بأنّ العرض من شؤون وجود الجوهر، فليتأمّل.

وكيف كان، فلمّا كان هذا البيان غيرَ وافٍ عند الاُستاذ(قدس‌سره) بإثبات المرام كما صرّح به في تعليقته على الأسفار(2) عدل عنه إلى بيان آخر، وحاصله أنّ العلم بالشيء هو حصول الصورة العلميّة للعالم، فوجودها نوع من الوجود للغير (أي للعالم) والوجود للغير يتّحد مع وجود ذلك الغير وإلاّ كان له وجود لنفسه أيضاً. فالعلم الذي هو المعلوم بالذات متّحد مع وجود العالم، وهو المطلوب.


1. راجع: التعليقات: ص‌‌77؛ «الفرق بين الاستكمال والانفعال».

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ذيل الصفحة 313ـ314؛ وج6: ذيل الصفحه 169ـ.170

وهذا البيان يُثبت الاتّحاد الأعمّ من اتّحاد العرض بالجوهر واتّحاد الصورة بالمادّة، لكن في تعميمه للعلم الحضوريّ نظر واضح، فلا حضور الشيء لنفسه من قبيل الوجود للغير، ولا حضور المعلول عند العلّة، ولا حضور العلّة عند المعلول. مضافاً إلى أنّه لا يساعد ما ذهب إليه من رجوع العلم الحصوليّ إلى الحضوريّ وأنّه مشاهدة الصور المجرّدة المستقلّة، فإنّ وجودها يكون لأنفسها، فتبصّر.

358 ـ قوله «فإن قلت...»

قد اُورد في هذا الكلام إشكال على جريان هذا البرهان في العلم الحصوليّ وإشكالات على القول بالاتّحاد في العلم الحضوريّ. أمّا الإشكال الأوّل فهو أنّ هذا البرهان مبتنٍ على كون وجود العلم للغير، مع أنّ الذي ينقسم إلى ما وجوده لنفسه وما وجوده لغيره هو الموجود الخارجيّ الذي يكون وجوده في نفسه، فالأعراض الخارجيّة التي هي بالحمل الشائع أعراض يكون وجودها لغيرها، وبعض الجواهر الخارجيّة التي هي بالحمل الشائع جواهر يكون وجوده لنفسه، أمّا الجوهر أو العرض الذهنيّ فليس مندرجاً في مقولة حتّى يقال إنّ وجوده لنفسه أو لغيره، وإنّما يحمل الجوهر أو العرض عليه بالحمل الأوّليّ. والحاصل أنّه لا معنى لفرض الاتّحاد بين وجود النفس والمفاهيم الذهنيّة.

والجواب أنّ للمفاهيم اعتبارين: اعتبار المفهوميّة، واعتبار الوجود في الذهن، والاتّحاد إنّما يلاحظ بين وجود النفس والصورة العلميّة بما أنّها وجود لا بما أنّها مفهوم، وبهذا الاعتبار تدخل في مقولة الكيف بالنظر إلى مهيّته، كما مرّ الكلام فيه في المرحلة الثالثة.

لكنّ الاُستاذ(قدس‌سره) أجاب عن الإشكال برجوع العلم الحصوليّ إلى الحضوريّ، فتدبّر.

وأمّا العلم الحضوريّ فاُورد عليه بأنّ اتّحاد شيئين يقتضي تعدّداً بينهما كما أنّه

يقتضي جهة وحدة لهما، لكن في العلم بالنفس لا توجد جهة كثرة، فلا يصدق الاتّحاد وإنّما هو الوحدة. وأمّا في علم العلّة بالمعلول وبالعكس وعلم أحد المعلولين بالآخر فلا توجد جهة وحدة للعالِم والمعلوم. على أنّ لازم الاتّحاد صيرورة جميع المجرّدات شخصاً واحداً، لأنّها لا تخلو من أن يكون كلّ اثنين منها علّة ومعلولاً أو يكونا معلولين لعلّة ثالثة، فيلزم أن يكون واحد منها عالماً بالجميع ومعلوماً للجميع، والقول باتّحادها يستلزم كون الجميع شخصاً واحداً.

وقد أجاب سيّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) عن إشكال وحدة العالِم والمعلوم في العلم بالنفس بأنّ إطلاق الاتّحاد هناك إنّما هو بالنظر إلى التغاير الاعتباريّ بينهما. وأمّا إشكال تعدّد العالم والمعلوم في علم العلّة بالمعلول وبالعكس فقد أجاب عنه بأنّ مرادنا بالاتّحاد ليس هو صيرورة العالم والمعلوم وجوداً واحداً شخصيّاً ذا مرتبة واحدة، وإنّما يشمل اتّحاد الوجود الرابط بالمستقّل ـ كما أشرنا إليه عند توضيح المسألة ـ فالعلّة تتّحد بالمعلول الذي هو عين الربط بها اتّحادَ الحقيقة بالرقيقة، كما أنّ المعلول يتّحد بها اتّحادَ الرقيقة بالحقيقة. وبهذا يظهر الجواب عن الإشكال الأخير. وأمّا معلولا علّة ثالثة فالمراد باتّحادهما انتزاع ماهيّتَي العالم والمعلوم عن كلّ واحد منهما بما أنّه عالم.

لكنّ فهمي يقصر عن نيل ما أراد بهذا الكلام الأخير، وقد أجاب في بعض دروسه بأنّ لكلّ واحد من المعلولين علماً حضوريّاً بالعلّة، فيشاهد ما للآخر من الكمال الوجوديّ في ذات العلّة. ويمكن أن يناقش فيه بأنّ علم كلّ واحد منهما بالعلّة يتعلّق بالحيثيّه التي صدر عنها وجوده، وإن كانت جميع الحيثيّات موجودة في ذات العلّة على نعت البساطة، لكن لا يتجلّىٰ للمعلول إلاّ ما يرتبط به وجوده، ولهذا لا يحيط المعلول بالعلّة علماً.(1) كما أنّ فرض معلولين مجردّين في مرتبة واحدة لا يخلو من صعوبة بالنظر إلي مبانيهم، فإن فُرضا متحدّين بالنوع كان


1. راجع: المبدء والمعاد: ص‌‌34.

الفرض مخالفاً لما التزموا به من انحصار كلّ نوع مجرّد في فرد واحد، وإن فُرضا مختلفين بالنوع كالعقول العرْضيّة كان مخالفاً لقاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد، خاصّةً بالنظر إلى رأي الاُستاذ في المُثُل الأفلاطونيّة. فينحصر مورد الفرض في النفوس المفارقة، بصرف النظر عن ما ذهب إليه صدر المتألّهين من تنوّعها بالصور العقليّة والملكات الخُلقيّة، فتفطّن.

وكيف كان فإثبات العلم الحضوريّ لمعلولي علّة ثالثة ببعضهما بالبيان الفلسفيّ مشكل جدّاً. وكان الأولى تأخير هذا البحث إلى الفصل‏الحادي عشر أو تقديم ذلك الفصل.

الفصل الثالث

359 ـ قوله «في انقسام العلم الحصوليّ إلى كلّي وجزئيّ...»

المراد بالعلم في عنوان الفصل هو التصوّر، فإنّه إمّا أن يكون بحيث لا يمتنع صدقه على أكثرَ من واحد وهو الكلّيّ، أو يمتنع ذلك وهو الجزئيّ، والأوّل هو المفهوم العقليّ، والثاني ينقسم إلى الحسّيّ والخياليّ. فكان الأولى تقديم انقسام العلم الحصوليّ إلى التصوّر والتصديق.

وقد نبّه الاُستاذ(قدس‌سره) على أنّ الصورة العلميّة أيّاً ما كانت لا تمتنع بذاتها عن الانطباق على أكثر من واحد، وشأنها شأن التصاوير التي لا يمتنع انطباقها على ذوات متعدّدة. فامتناع الصورة الجزئيّة عن ذلك. لابدّ وأن يرجع إلى أمر خارج عن ذاتها. وعلّله باتّصال أدوات الحسّ بالمعلوم الخارجيّ الشخصيّ، وبتوقّف الصورة الخياليّة على العلم الحسّي.

ويمكن المناقشة فيه أوّلا بأن اتّصال أدوات الحسّ بالخارج لا يوجب بنفسه

عدم صدق الصورة العلميّة على غير ما تتّصل به آلة الإحساس، وثانيا بأنـّه لا يكفى توقُّف الصورة الخياليّة على العلم الحسّيّ دليلاً على جزئيّتها، كيف والصور العقليّة أيضاً مسبوقة به. بل السرّ فيه يرجع إلى ما أشرنا إليه تحت الرقم (90 و 355) من أنّ الصورة العلميّة بما لها من المرآتيّة قابلةٌ لأن تكون منظوراً فيها وأن تكون منظوراً إليها، فإذا نُظر فيها بحيث لم تكن نفسها ملحوظة استقلالاً كان التوجّه معطوفاً إلى المحكيّ، فإن كان المحكيّ أمراً شخصيّاً عُدّ العلم جزئيّاً، وإلاّ عُدّ كلّياً. وهذا هو العلم الحصوليّ. وأمّا إذا نُظر إليها نظراً استقلاليّاً واختُبر قابليّتها للانطباق لم يمتنع انطباقها على أكثر من واحد، لكن هذا الانطباق ليس هو انطباق العلم وحكايته عن المعلوم، بل هو من قبيل انطباق القوالب على الأشياء. كما أنّه إذا نُظر إلى كلّ صورة إدراكيّة كأمر موجود في ظرف الذهن كانت أمراً شخصيّاً لا مفهوماً كليّاً ولا جزئيّاً، وهذا هو اعتبار كونها معلومةً بالعلم الحضوريّ.

360 ـ قوله «الثاني أنّ أخذ المفهوم ـ إلى قوله ـ والارتباط بالخارج»

المراد بالخارج هو الخارج عن وعاء المفاهيم، لا خصوص الخارج عن البدن أو الخارج من النفس، فالنفس والبدن كلاهما يعتبران خارجين بالنسبة إلى المفاهيم الحاكية عنهما، والعلم الحضوريّ بالنفس هو علم بوجودها الخارجيّ.

ثمّ إنّ من العلوم الحصوليّة ما ينتزع عن الموجود الخارجيّ المشهود بالعلم الحضوريّ بلا فعّاليّة إيجابيّة من العقل، كالمفاهيم الماهويّة المأخوذة عن النفس وقواها وأفعالها المباشرة وحالاتها وانفعالاتها كمفهوم العقل والخيال والإرادة والمحبة والخوف، ومنها ما ينتزع بتعمّل منه ومقايسة بعض المشهودات إلى بعض كمفهوم العلّة والمعلول وغيرهما من المعقولات الثانية الفلسفيّة، وقد عرفت سابقاً أنّ مفهوم الجوهر والعرض أيضاً من هذا القبيل، ومنها ما ينتزع عن المفاهيم الذهنيّة

الحاضرة عند النفس، فتعتبر تلك المفاهيم مصاديقَ ذهنيّة لها، كانتزاع مفهوم «الكلّيّ» عن مفهوم «الخوف» في الذهن، وهذه هي المعقولات الثانية المنطقيّة. ومن المفاهيم ما يحصل للذهن بارتباطٍ بالخارج المادّيّ وانفعالٍ للنفس بتبع انفعال البدن عنه، إمّا بلا واسطة كالصور الحسّية، أو بواسطة كالصور الخياليّة والمفاهيم الماهويّة الحاكية عن المحسوسات كمفهوم اللون والصوت وغيرهما. وهذه المفاهيم هي التي تنتهي إلى الحسّ، ومن فقدَ حاسّةً من الحواسّ فقدَ العلوم المتعلّقة بها.(1)

ثمّ إنّ المشهور بينهم أنّ هناك نوعاً آخر من العلم الحصوليّ غير الحسّيّ والخياليّ والعقليّ، وهو الوهميّ.(2) ولا بأس بالإشارة إلى بعض كلماتهم في هذا الباب.

قال الشيخ في النجاة: «ثمّ القوّة الوهميّة، وهي قوّة مرتّبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ، تدرك المعاني الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة، كالقوّة الحاكمة بأنّ الذئب مهروب عنه وأنّ الولد معطوف عليه».(3) وقال أيضاً: «وأمّا المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلاً، مثل إدراك الشاة معنى المضادّ في الذئب، وهو المعنى الموجب لخوفها إيّاه وهربها عنه، من غير أن يكون الحسّ يدرك ذلك البتّة».(4)

وقال في الإشارات: «فإنّ الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئيّة معانيَ جزئيّةً غير محسوسة ولا متأديّة من طريق الحواسّ، مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس، إدراكاً جزئيّاً يحكم به كما يحكم الحسّ بما يشاهده».(5)


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة الثالثة من برهان الشفاء.

2. راجع: التحصيل: ص‌‌745ـ746.

3. راجع: النجاة: ص‌‌163.

4. راجع: نفس المصدر: ص‌‌162.

5. راجع: النمط الثالث من الإشارات.

وقال في الشفاء ما ملخّصه: «إنّ الوهم هو الحاكم الأكبر في الحيوان، ويحكم على سبيل انبعاث تخيّليّ، من غير أن يكون ذلك محقّقاً، وهذا مثل ما يعرض للإنسان من استقذار العسل لمشابهته للمرارة، فإنّ الوهم يحكم بأنـّه في حكم ذلك، ويتّبع النفس ذلك الوهم وإن كان العقل يكذّبه. والحيوانات وأشباهها من الناس إنّما يتّبعون في أفعالهم هذا الحكم من الوهم الذي لا تفصيل منطقيّاً له، بل هو على سبيل انبعاث ما فقط ـ إلى أن قال ـ إنّ من الواجب أن يبحث الباحث ويتأمّل أنّ الوهم الذي لم يصحبه العقل حال توهمّه كيف ينال المعاني التي هي في المحسوسات عند ما ينال الحسّ صورتها. فنقول: إنّ ذلك للوهم من وجوه: من ذلك الإلهامات الفائضة على الكلّ من الرحمة الإلهيّة، مثل حال الطفل ساعةَ يولد في تعلّقه بالثدي، وإذا تعرّض لحدقته بالقذى بادر فأطبق جفنه قبل فهم ما تعرّض وما ينبغي أن يفعل بحسبه، كأنّه غريزة لنفسه لا اختيار معه. وكذلك للحيوانات إلهامات غريزيّة، وهذه الإلهامات يقف بها الوهم على المعاني المخالطة للمحسوسات في ما يضرّ وينفع، فيكون الذئب يحذره كلُّ شاة وإن لم تره قطّ ولا أصابتها منه نكبة. وقسم آخر يكون لشيء كالتجربة، وذلك أنّ الحيوان إذا أصابه ألم أو لذّة أو وصل إليه نافع حسّي مقارناً لصورة حسيّة فارتسم في المصورة صورة الشيء وصورة ما يقارنه، فاذا لاح للمتخيّلة تلك الصورة من خارج تحركت في المصوّرة وتحرّك معها ما قارنها من المعاني النافعة أو الضارّة، فأحسّ الوهم بجميع ذلك معاً، فرأى المعنى مع تلك الصورة، وهذا هو على سبيلٍ تُقارب التجربة، ولهذا تخاف الكلاب المدر والخشب وغيرها. وقد يقع للوهم أحكام اُخرى بسبيل التشبيه، بأن يكون للشيء صورة تقارن معنى وهميّاً في بعض المحسوسات، وليس تقارن دائماً ذلك وفي جميعها، فيلتفت مع وجود تلك الصورة إلى معناها وقد تخلّف».(1)


1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء؛ والتحصيل: ص‌‌801.

وقال في منطق النجاة: «الوهميّات هي آراء أوجب اعتقادَها قوّةُ الوهم التابعةُ للحسّ، مصروفة إلى حكم المحسوسات، لأنّ قوّة الوهم لا تتصوّر فيه خلافَها. ومثال ذلك اعتقاد الكلّ من الدهماء ـ ما لم يُصرفوا عنه قسراً ـ أنّ الكلّ ينتهي إلى خلأ، أو أن يكون الملأ غير متناه، ومثل تصديق الأوهام الفطريّة كلّها بأنّ كلّ موجود فيجب أن يكون متحيّزاً في جهة. وهذان المثالان من الوهميّات الكاذبة. وقد يكون منها صادقة يتبعها العقل، مثل أنّه كما لا يمكن أن يُتوهَّم جسمان في مكان واحد فكذلك لا يوجد ولا يعقل جسم واحد في وقت واحد في مكانين ـ إلى أن قال ـ ففطرة الوهم في المحسوسات وفي الخواصّ التي لها من جهة ما هي محسوسة، صادقة يتبعها العقل، بل هو آلة للعقل في المحسوسات. وأمّا فطرتها في الاُمور التي ليست بمحسوسة لتصرفها إلى وجود محسوس فهي فطرة كاذبة».(1)

وقال شيخ الإشراق: «وأثبت بعض الناس في الإنسان قوّة وهميّة هي الحاكمة في الجزئيّات، واُخرى هي متخيّلة لها التفصيل والتركيب، وأوجب أنّ محلّهما التجويف الأوسط. ولقائل أن يقول: إنّ الوهم بعينه هو المتخيّلة ـ إلى أن قال ـ فالحقّ أنّ هذه الثلاث شيء واحد وقوّة واحدة، باعتبارات يعبّر عنها بعبارات».(2)

وقال صدر المتألّهين: «والتوهّم إدراكٌ لمعنى غير محسوس بل معقول، لكن لا يتصوّره كلّياً بل مضافاً إلى جزئيّ محسوس، ولا يشاركه غيرهُ لأجل تلك الإضافة إلى الأمر الشخصيّ ـ إلى أن قال ـ واعلم أنّ الفرق بين الإدراك الوهميّ والعقليّ ليس بالذات، بل أمر خارج عنه، وهو الإضافة إلى الجزئيّ وعدمها، فبالحقيقة الإدراك ثلاثة أنواع كما أنّ العوالم ثلاثة، والوهم كأنّه عقل ساقط عن مرتبته».(3)


1. راجع: النجاة: ص‌‌6263.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌209ـ210؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌360ـ362؛ وراجع: أيضاً الأسفار: ج3، ذيل الصفحة 362؛ و راجع: نفس المصدر.

و قال في موضع آخر: «واعلم أنّ الوهم عندنا وإن كان غير القوى التي ذُكرتْ إلاّ أنّه ليس له ذات مغايرة للعقل، بل هو عبارة عن إضافة الذات العقليّة إلى شخص جزئيّ وتعلّقها به وتدبيرها له، فالقوّة العقليّة المتعلّقة بالخيال هو الوهم، كما أنّ مدركاته هي المعاني الكليّة المضافة إلى صور الشخصيّات الخياليّة».(1)

وكتب الاُستاذ(قدس‌سره) في تعليقته على الأسفار: «لا ينال الوهم كلَّ صورة عقليّة مضافة إلى الجزئيّ، كالإنسان والفرس والسواد والبياض مثلاً،(2) وإنّما ينال اُموراً جزئيّة موجودة في باطن الإنسان كالمحبّة والعداوة والسرور والحزن، ولا مانع من نسبة إدراكها إلى الحسّ المشترك كما سيأتي في سفر النفس، ومجرّد تسميتها معاني في مقابل الصور المدركة من طريق الحواسّ الظاهرة لا يوجب مباينةً نوعيّةً في الفعل حتّى يحوج إلى إثبات قوّة اُخرى، فالحقّ إسقاط الوهم من رأس وإسناد فعله إلى الحسّ المشترك».

وقال أيضاً: «الحقّ أنّ الإدراك نوعان بإسقاط الإحساس كما اُسقط الوهم، فإنّ حضور المادّة المحسوسة وغيبتها لا يوجب مغايرة بين المدرك في حال الحضور وعدمه. نعم، الغالب هو كون الصورة أقوى جلاءً عند النفس مع حضور المادّة، وربما كان المتخيَّل أقوى وأشدَّ ظهوراً مع عناية النفس به».

وتثور حول هذه الكلمات تساؤلات كما يلى:

1. هل يدرك الوهمُ المعانيَ الجزئيّة المتعلقّة بالخارجيّات كعداوة الذئب مثلاً أو يدرك المعاني الحادثة في النفس؟

2. هل يُدرك ‏الوهم خصوص التصوّرات، وشأنه شأن الحواسّ الظاهرة في


1. راجع: نفس المصدر: ج‌8، ص‌‌215ـ220.

2. قال في التحصيل: ص784: «وههنا معانٍ لا يدركها الحسّ كالمعنى الذي ينفرّ الشاة عن الذئب، بل كالإنسانية والشكلية والعددية، لا مجرّدة بل مأخوذة مع شخص محسوس منتشر، ولا محالة أنّ النفس تدركها بواسطة قوّة بدنيّة. والقوّة التي بها تدركها تسمّى وهماً».

إدراكها للصور الحسّية، أو هو مدرك للتصديقات، وشأنه شأن النفس العاقلة في حكمها بالإيجاب والسلب؟

3. هل الوهم مدرك لنوع واحد من المعاني أو له أنواع متعدّدة من الإدراك؟

4. ما هو منشأ الأحكام الوهميّة؟ وما هي قيمة تلك الأحكام؟

5. هل الواهمة قوّة مستقلّة في قبال سائر القوى الإدراكيّة للنفس أو ليست في الواقع إلاّ إحدى تلك القوى وتسمّى واهمةً باعتبار خاصّ؟ وما هي نسبة هذه القوّة إلى سائر القوى؟

أمّا السؤال الأوّل فالجواب عنه أنّ مدلول كلمات القوم هو الأوّل، لكن ظاهر كلام الاُستاذ(قدس‌سره) في تعليقته على الأسفار هو الثاني. ولعلّ مراده أنّ ما ننسبه من المعاني إلى الخارجيّات هو في الواقع ممّا قد وجدناه أوّلاً في أنفسنا، ثمّ بمشاهدة آثاره في الحيوان أو الإنسان الخارجيّ نعتقد بوجود ذلك فيه. وهذا حقٌّ في ما نشعر به من الإدراكات المنطوية على نوع من الاستدلال الارتكازيّ، لكن مدّعى القوم أنّ في الحيوان إدراكاً غريزيّاً للمعاني الجزئيّة ببعض الأشياء الخارجيّة، كإدراك الشاةِ عداوةَ الذئب، وهو من فعل قوّته الواهمة.

أمّا الجواب عن السؤال الثاني فهو أنّ مقتضى عدّهم القوّةَ الواهمة من الحواسّ الباطنة أنّ شأنها التصوّر كسائر الحواسّ، لكنّهم قد ينسبون الأحكام إلى الحواسّ أيضاً كما أنّهم ينسبون اللذّة والألم إليها. والحقّ أنّ الحكم لا يكون إلاّ للنفس، وإنّما يُنسب بعض الأحكام إلى الحواسّ بالنظر إلى أنّ متعلّقه أمر محسوس بالحسّ الظاهريّ أو الباطنيّ، وأنّ طريق الوصول إليه هو الحسّ.

وأمّا السؤال الثالث فالجواب عنه أنّ ما ينسب إلى الوهم كقوّة مدركة للتصوّرات هو نوع واحد من المدرَكات، وهو المعنى الجزئيّ المتعلّق بالمحسوسات. وأمّا الأحكام الموصوفة بالوهميّات فهي على أنواع ذكرها الشيخ في الشفاء وتلميذه في

التحصيل،(1) وتشترك في اعتبار معنى وهمّي في متعلّقها. لكن يشكل هذا الاعتبار في الوهميّات التي ذكروها في المنطق، كتوهّم أنّ كلّ موجود يجب أن يكون في مكان وزمان. والظاهر أنّه من قِبل الاشتراك في الاسم، فتفطّن.

وبالتأمّل في كلامهما يظهر الجواب عن السؤال الرابع أيضاً.

وأمّا السؤال الخامس فقد عرفت أنّ المشهور بينهم كون القوّة الواهمة قوّةً مستقلّةً، لكن احتمل الشيخ في موضع من الشفاء(2) كونَ المتوهّمة هي المفكّرة والمتخيّلة بعينها، وذهب شيخ الإشراق إلى وحدة الواهمة والمتخيّلة والحسّ المشترك، وذهب سيّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) في تعليقته على الأسفار إلى كونها هي الحسّ المشترك، لكنّه نسب إليها إدراك المحبّة ونحوها، مع أنّها معلومة بالعلم الحضوريّ، ويمكن تأويل كلامه إلى أنّه يتصوّر معانيها الجزئيّة. وذهب صدر المتألّهين إلي أنّ الوهم هو العقل المتنزّل عن مرتبته، ولا يخلو كلامه عن غموض، فليتأمّل.

والحقّ أنّ المحبّة ونحوها من الكيفيّات النفسانيّة تُعلم علماً حضوريّاً، ويأخذ الذهن منها معاني جزئيّة، على وزان الصور الخياليّة، فيتذكّرها بعد زوالها، كما أنّه يأخذ معاني كلّيةً كسائر المعقولات. وأمّا المعاني الجزئيّة التي ندركها في الحيوانات والأناسيّ فهي في الأصل مأخوذة من حالاتنا النفسيّة، وننسبها إليها لِما نرى فيها من آثارها. وأمّا الإدراك الغريزيّ فله شأن آخر، وليس أمراً مشعوراً به. وأمّا الأحكام فكلّها صادرة من النفس، فما كان منها منتهياً إلى البديهيّات فهو صادق وذو قيمة منطقيّة، وما كان منها ناشيءاً عن مجرّد التخيّل والتمثيل فقيمته رهن للبرهان.


1. راجع: الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الفنّ السادس من طبيعيات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص801..

2. راجع: الأوّل من رابعة السادس من طبيعيّات الشفاء.

الفصل الرابع

361 ـ قوله «ينقسم العلم الحصوليّ...»

العلم بالشيء قد يحصل من طريق الحسّ والمشاهدة ويتعلّق بالاُمور القابلة للزوال بما هي كذلك، فيتغيّر بتغيُّر المعلوم، كما أنّ حدوثه منوط بوجود المعلوم، ويسمَّى علماً جزئيّاً وزائلاً ومتغيّراً، وقد يحصل من طريق العقل وبالاستدلال بالعلل والأسباب على المعاليل والمسبّبات، كعلم المنجّم بوقوع الخسوف ليلة كذا، من طريق العلم بأسبابه، ومثل هذا العلم لا يكون تابعاً لوجود المعلوم ولا يتغيّر بتغيّره، فيمكن حصوله قبل تحقّق المعلوم ومعه وبعده، ويسمّى علماً كلّياً ودائماً وثابتاً.

فهذا التقسيم يجري أصالة في القضايا والتصديقات بخلاف التقسيم السابق، وإن صحّ اتّصاف التصوّرات المأخودة منها أيضاً بالكلّي والجزئيّ بهذا المعنى، فيقال: انخساف القمر ليلة كذا معلوم للمنجّم علماً كلّياً.

وقد يستعمل الكلّي والجزئيّ بهذا الاصطلاح في مقدّمات البرهان، حيث يشترطون في براهين العلوم أن تكون مفيدة لليقين الدائم، فيجب أن تكون مقدّماتها يقينيّة على الدوام، فيعبّرون عن هذا الشرط بالكلّية والدوام.(1)

ثمّ إنّ المشّائين ذهبوا إلى أنّ علم الواجب تعالى بالحوادث الجزئيّة يكون بهذا المعنى كلّياً،(2) لما أنّه ناشيء من ذات الواجب التي هي علة اُولى لجميع


1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الثانية من برهان الشفاء؛ والتحصيل: ص‌‌238.

2. راجع: النمط السابع من الإشارات؛ وراجع: التعليقات: ص‌‌13ـ15 و23ـ25 و 97 و 115 116 و 120 و 121 و 162ـ163؛ وراجـع: الأسـفـار: ج‌3، ص‌‌403417؛ وراجـع: الفصـل السـادس مـن المقـالة الثـامنـة مـن إلهيّات الشفـاء؛ وراجع: المبـاحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌363ـ365؛ والتحصيـل: ص495496 و 576؛ والنجـاة: ص‌‌247ـ249.

الموجودات، ولما أنّه موجود قبل حدوثها كما أنّه لا يتغيّر بتغيّرها، وبهذا الاعتبار يسمّى علم ما قبل الكثرة.(1)

الفصل الخامس

362 ـ قوله «في أنواع التعقّل»

ذكر الشيخ في الشفاء أنَّ النفس مادامت متعلّقة بالبدن تكون عقلاً بالقوّة بالنسبة إلى اُمور، وإن كانت عقلاً بالفعل بالنسبة إلى اُمور اُخرى، ويسمّى عقلاً هيولانيّاً بمعنى مطلق الاستعداد (لا بمعنى الاستعداد المطلق) وجوّز العقل بالفعل من جميع الجهات في النفوس القدسيّة كنفوس الأنبياء.

ثمّ ذكر أنّ التعقّل يكون على وجوه ثلاثة: أحدها أن تكون الصورة العلميّة حاضرة عند النفس تفصيلاً وتكون ملتفتة إليها. وثانيها أن تكون الصورة مكتسبة لكنّ النفس أعرضتْ عنها لاشتغالها بغيرها، ويمكنها استحضارها متى شاءت. وثالثها أن يكون التعقّل على نعت البساطة والإجمال من غير تفصيل وتكثّر، كمن يُسأل عن مسائل يعلم جوابها من غير تفصيل، وإنّما يحصل التفصيل عند الشروع في البيان. وجعل علم المفارقات بالكثرات من هذا القبيل. كما أنّه وجّه علم الواجب تعالى بالأشياء على هذا الوجه.(2)

وقد ناقش الشيخ الإشراقي(3) والإمام الرازي(4) في القسم الأخير. وقال صدر


1. راجع: المطارحات: ص‌‌332.

2. راجع: السادس من خامسة السادس من طبيعيّات الشفاء؛ وراجع: السابع من ثامنة إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التعليقات: ص‌‌120 و 152 و 193؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌812ـ814.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌478480؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌151.

4. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌335ـ337.

المتألّهين: «إنّ إثبات العقل البسيط لا يمكن إلاّ بالقول باتّحاد العاقل والمعقول، والقول بأصالة الوجود وتشكّكه».(1)

ولْيُعلمْ أنّ العقل البسيط الذي أثبته الشيخ إنّما هو في العلم الحصوليّ، وعلم الواجب تعالى أجلُّ شاناً من ذلك كما سيأتي الكلام فيه، وكذلك علم المفارقات. نعم، بناءً على تعميمه للعلم الحضوريّ يجري في علم المجرّدات وعلم الواجب تبارك وتعالى على وجه أشرف وأعلى.

الفصل السادس

363 ـ قوله «في مراتب العقل»

نُقل عن المعلّم الأوّل أنّ العقل على ثلاثة أضرب: العقل الهيولانيّ وهو القوّة التي للنفس للتعقّل قبل أن تعقل بالفعل، والعقل بالملكة وهو الذي قد صار يَعقل وله ملكة أن يَعقل، والعقل الفعّال وهو الذي به يصير الهيولاني ملكة، ونسبته إلى النفس العاقلة نسبة ضوء الشمس إلى العين المبصرة.(2)

وقال المعلّم الثاني: إنّ العقل النظريّ واقع عند القدماء على أربعة أنحاء: عقل بالقوّة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعّال. وإنّما أسقطوا العقل بالملكة من الاعتبار إذ ليس بينه وبين العقل الهيولانيّ كثير تفاوت في الدرجة العقليّة.(3)

وذكر الشيخ للقوّة النظرية للنفس أربع مراتب: العقل الهيولانيّ، والعقل بالملكة وهو الذي قد حصلت له الأوّليات مثل أنّ الكلّ أعظم من الجزء، والعقل بالفعل


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌368ـ377.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌‌428433.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌421427.

وهو الذي حصلت له الصور المكتسبة من الأوّليات مخزونةً عنده بحيث متى شاء رجع إليها وطالعها بالفعل، والعقل المستفاد وهو الذي تكون الصورة حاضرة عنده فيطالعها ويعقلها بالفعل ويعقل أنّه يعقلها بالفعل. ويسمّى مستفاداً لكونه مستفاداً من العقل الفعّال.(1)

وقال في الأسفار(: «والفرق بينه (أي العقل المستفاد) وبين العقل الفعّال أنّ العقل المستفاد صورة مستفادة كانت مقترنة بالمادّة ثمّ تجرّدت عنها بعد تحوّلها في الأطوار، والعقل الفعّال هو صورة لم تكن في مادّة أصلاً، ولا يمكن أن تكون إلاّ مفارقة».)(2)

وقال المحقّق السبزواريّ في تعليقته على الأسفار: «في حصول العقل المستفاد بالنسبةإلى كل المعقولات مادامت النفس مشغولةبتدبير البدن خلاف، والحقّ حصوله، إذ البدن يصير بالنسبة إلى بعض المتألّهة كقميص يلبسه تارةً ويخلعه اُخرى».(3)

الفصل السابع

364 ـ قوله «في مفيض هذه الصورة العلميّة»

إذا كان التعقّل عبارة عن حصول صورة عقليّة للنفس فلابدّ من وجود مبدء لتلك الصورة تفيض عنه عند حصول استعداد خاصّ للنفس بالنسبة إليها. وذلك المبدء هو العقل الفعّال الذي هو أقرب العقول إلى عالم المادّيات.(4) ثمّ إنّ النفس قد تنسى ما


1. راجع: الخامس من اُولى السادس من طبيعيّات الشفاء؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات؛ والنجاة: ص‌‌165ـ166؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌815 و 819.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌461.

3. راجع: نفس المصدر: ذيل الصفحة 426.

4. راجع: الخامس من خامسة السادس من طبيعيّات الشفاء؛ والنجاة: ص‌‌166 و 192؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌160 و 810ـ811 و 814ـ815؛ وراجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌264.

تعقّلتْه ثمّ تتذكّره بعد حين، فتجده عين ما اكتسبته سابقاً، وهذا دليل على أنّ للصور العقليّة خزانةً قد تتّصل النفس بها بسبب استعداد خاصّ، وقد تنقطع عنها لحصول مانع، وتلك الخزانة هي العقل الفعّال.(1) وقد استدلّوا لوجوده بوجوه اُخرى.(2)

هذا ما ذكره أتباع المشّائين ممّن يرى أنّ التعقّل هو حصول صورة عقليّة للنفس، وأمّا من يرى أنّ العلم من مقولة الإضافة أو يرى أنّ الإدراك هو مشاهدة اُمور مجرّدة مستقلّة كسيدنا الاُستاذ(قدس‌سره) فلا يحتاج إلى إثبات مبدء لإفاضة الصورة العقليّة، لعدم اعتقاده بحصول صورة للنفس.

ثمّ إنّهم عبّروا عن ارتباط النفس بالعقل الفّعال واستفاضتها منه بالاتّصال، لكن حكي عن بعض القدماء أنّ النفس تصير عند التعقّل متّحدةً بالعقل الفعّال. وقد ناقش فيه الشيخ الرئيس(3) وشيخ الإشراق(4) والإمام الرازيّ،(5) وقد تصدّى صدر المتألّهين لتوجيه بما لا يخلو عن نظر.

ويمكن أن يقال: إنّ اتّحاد النفس بالعقل الفعّال هو من قبيل اتّحاد الوجود الرابط بالمستقلّ، وهذا الاتّحاد وإن لم يختصّ بحال التعقّل لكن لمّا كانت النفس تستكمل بالصور العقليّة ويشتدّ بها وجودها كان اتّحادها به عند التعقّل أقوى وأوثق، فإنّ وجود المعلول كلّما كان أقوى وأوسع كان اتّحاده بالعلّة أوثق وأشمل.

365 ـ قوله «وراء العقول الطوليّة ودونها»

يعني أنّهم أثبتوا علاوةً على العقول الطوليّة عقولاً عرْضيّة هي المُثُل الأفلاطونيّة،


1. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌274؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌815؛ وراجع: القبسات: ص‌‌385ـ387.

2. راجع: الأسفار: ج‌7، ص‌‌262ـ281.

3. راجع: النمط السابع من الإشارات.

4. راجع: التلويحات: ص‌‌6869؛ والمطارحات: ص475.

5. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌327.

وسيأتي الكلام فيها في الفصل العشرين، ومرتبة هذه العقول العرضيّة هي دون مرتبة العقول الطوليّة.

الفصل الثامن

366 ـ قوله «حاصلة من معلوم واحد»

يريد التأكيد على بساطة التصوّر، في مقابل التصديق المحتاج إلى تصوّرين لا أقلَّ منهما، لكن لِيُعلم أنّ من التصوّر ما هو مركّب تركيباً ناقصاً لا يصحّ السكوت عليه كالتركيب الإضافيّ ومقدّم الشرطيّة، وكتصوّر القضيّة التامّة من غير إذعان للنفس بالنسبة بين أجزائها. ومهما تعدّدت التصوّرات فلا تحصل منها قضيّة إلاّ بتحقّق الحكم، وبهذا يظهر أنّ قوام القضيّة إنّما هو بالحكم ولا تخلو منه أيّة قضيّة. وقد مرّ الكلام فيه تحت الرقم (39).

واعلم أنّ لفظة «التصديق» مشتركة بين نفس الحكم ومجموع القضيّة المشتملة عليه.

367 ـ قوله «إذ لا معنى لتخلّل النسبة...»

ومثل هذا الكلام يجري في الحمل الأوّلي. وقد مرّ أنّ النسبة إنّما تلاحظ بين الموضوع والمحمول الموجودين في الذهن، ولا شكّ في تغايرهما في ذلك الوعاء، وإن لم يتغايرا في الخارج.

368 ـ قوله «ولا حكم فيها»

قد عرفت أنّ القضيّة أيّاً ما كانت لا تتحقّق إلاّ بالحكم، فالقول بنفي الحكم

في القضيّة السالبة يساوق القول بنفي كونها قضيّة، وهو كما ترى. ولهذا ذكر الاُستاذ(قدس‌سره) في بعض كلماته أنّ في مثل هذه القضايا يعتبر عدم الحكم حكماً عدميّاً.

369 ـ قوله «وأمّا كون الحكم فعلاً نفسانيّاً...»

بالنظر إلى أنّ القضيّة لا تتشكّل إلاّ بالحكم ينقدح سؤال هو أنّه هل الحكم من سنخ التصوّر ويكشف عن أمر خارجيّ أو ليس له شأن الكاشفيّة؟ فعلى الأوّل يكون كسائر التصوّرات التي لا تتلاحم بأنفسها، وعلى الثاني يكون قوام القضيّة بأمر غير كاشف عن الخارج.

فأجاب(قدس‌سره) بأنّ الحكم وإن كان فعلاً للنفس إلاّ أنّ هذا الفعل يفترق عن سائر الأفعال بكونه أمراً حاكياً عن اتّحاد الموضوع والمحمول في الخارج.

توضيح ذلك أنّ المعلوم الخارجيّ ينحلّ في الذهن إلى مفهومين، وقد مثّل له بأنّا إذا رأينا زيداً القائم حصلت لنا صورة إدراكيّة بسيطة، ثمّ إذا رأينا عمرواً القائم ورأينا زيداً في غير حال القيام استعدّ الذهن لتحليل كلّ من هذه الإدراكات البسيطة إلى مفهومين، فإذا أردنا حكاية ما شاهدناه أخذنا المفهومين وجعلناهما موضوعاً ومحمولاً في قضيّة وحكمنا باتّحادهما لتصلح القضيّة حاكيةً عن المعلوم البسيط. هذا في الهليّات المركّبة، ويجري مثله في تحليل المدرَك إلى مهيّة ووجود في الهليّة البسيطة.

فهذا الحكم باتّحاد الموضوع والمحمول في الحمليّات وبالملازمة أو العناد بين المقدّم والتالي في الشرطيّات وإن كان هذا الحكم فعلاً صادراً عن النفس إلاّ أنّه من سنخ المفاهيم ويحكي عن اتّحاد المفهومين قبل التحليل، فليس أمراً أجنبيّاً عن الخارج.

الفصل التاسع

370 ـ قوله «وقد أنهَوا البديهيّات إلى ستّة أقسام»

الحكم باتّحاد الموضوع والمحمول ونحوه قد لا يحتاج إلاّ إلى تصوّر الطرفين فيكون بديهيّاً أوّليّاً، وذلك في القضيّة التحليليّة التي ينحلّ موضوعها إلى المحمول بوجه. وقد يحتاج الحكم إلى استخدام الحواسّ الظاهرة فتسمّى القضيّة محسوسة، أو إلى الحواسّ الباطنة فتسمّى وجدانيّة، وقد يعبّر عنهما بالمشاهَدات. وقد يحتاج إلى إجراء تجربة على الموادّ الخارجيّة فتسمّى تجربيّة، أو إلى إخبار عدّة يمتنع تواطؤهم على الكذب فتسمّى متواترة، أو إلى قياس خفيّ يكون حدّه الأوسط حاضراً في الذهن فتسمّى فطريّة، ويعبّر عنها بالقضيّة التي يكون قياسها معها، كالحكم بزوجيّة الأربعة لأجل انقسامها إلى متساويين.

وكلّ هذه الاُمور لا يعدّونه اكتساباً، بلّ يخصّون الاكتساب بالتعمّل الفكريّ والسير الذهنيّ من المطلوب إلى مباديه ثمّ من المبادي إلى المطلوب. والأولى اختصاص الأوّليّات والوجدانيّات المأخوذة عن العلوم الحضوريّة باسم البديهيّ، وجعل سائر الأقسام، إذا كانت يقينيّة من القضايا القريبة إلى البداهة، لاحتياج جميعها إلى نوع من القياس والاستنتاج، وأقربها إلى البداهة هي التي سمَّوها باسم الفطريّات.

لكن في عدّ جميعها يقينيّةً نظر، فأنّ المحسوسات لا تكون يقينيّة على الإطلاق لما نرى من كثرة الخطأ في القضايا الحسّية، فلا يحصل اليقين بالمدركات الحسّية إلاّ بالبرهان. وأمّا الصور الحسّية فهي معلومة بالعلم الحضوريّ ولا تعدّ من المحسوسات، لأنّ الكلام في العلوم الحصوليّة الحاكيّة عمّا وراءها وأمّا القضايا الحاكية عن ثبوت تلك الصور الحسّية فهي من الوجدانيّات، وتكون بديهيّة لا محالة لحكايتها عن المعلومات الحضوريّة.

وأمّا المتواترات فاحتياجها إلى البرهان واضح، ويختلف إحراز امتناع التواطؤ على الكذب في الموارد، وليس له حدّ مضبوط.

وأمّا التجربيّات فيرد عليها ما يرد على المحسوسات من احتمال الخطأ، لابتنائها على المحسوسات. ثمّ إنّ فيها إشكالاً من جهة اُخرى، وهو أنّ تعميم الحكم من الموارد التي اُجريت عليها التجربة إلى غيرها يحتاج إلى ضمّ مقدمة اُخرى، فما هي تلك المقدّمة؟

وقد ذكر المنطقيّون أن تلك المقدّمة هي أنّ الأمر الدائميّ أو الأكثريّ ليس اتّفاقياً وأنّ القسر الدائميّ أو الأكثريّ محال.(1) ويلاحظ عليه أنّ هذه المقدّمة ليست بديهيّة، فما يبتني عليه أولى بعدم البداهة. مضافاً إلى أنّ اختبار أكثر الموارد غير متيسّر فضلاً عن جميعها، فكيف يُعلم باندراج موارد التجربة المحدودة في مفاد هذا الكبرى النظريّة على فرض كونها يقينيّة؟

وقد يقال: إنّ تلك المقدّمة هي أنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد. ويلاحظ عليه بمنع التماثل في ما هو ملاك التأثير، فمن أين يُعلم تماثل شيئين في العلّية التامّة لحصول أثر مُعيّن إذا لم يعلم تماثلهما من كلّ وجه، واحتمل اختصاص أحدهما بمصاحبة أمر خاصّ؟ مضافاً إلى أنّ ضمّ هذه المقدّمة لا يقتضي تكرّر الإدراك.

وقد لجأ الطبيعيّون إلى أصل موضوع هو أنّ فعل الطبيعة يكون دائماً على وتيرة واحدة. ويلاحظ عليه مضافاً إلى عدم بداهته أنّه لا ينفي تأثير عامل أو شرط غير ملتفَت إليه في التجربة حتّى يثبت استناد الأثر إلى طبيعة معيّنة.

وقد يتمسّك بمحاسبات الاحتمالات في التجارب المتكرّرة ممّا يؤدّي إلى


1. راجع: التحصيل: ص‌‌96ـ97؛ والنجاة: ص‌‌61؛ وراجع: الفصل التاسع من المقالة الاُولى والفصل الخامس من المقالة الثالثة من برهان الشفاء.

تضعّف احتمال الخلاف لغايته فيلحق بالعدم.(1) ويلاحظ عليه أنّ احتمال الخلاف وإن كان في غاية الضعف يكون مانعاً عن حصول اليقين المطلوب.

والحاصل أنّ الحكم الكلّيّ يتوقّف على معرفة كون الموضوع علّة تامّة للمحمول حتّى يندرج في تلك الكبرى القائلة أنّ انفكاك المعلول عن علّته التامّة محال. ومعرفة العلّية الخاصّة تتوقَّف غالباً على تغيير الاُمور الحافّة بالمعلول حتّى يُعرف ما يتوقّف عليه وجوده بالضبط. لكن يبقى بالأخرة احتمال وجود أمر غير محسوس مؤثّر في تحقّق المعلول ولو كان على نعت الشرط.

ولهذا فلن تصل القوانين التجريبيّة إلى حدّ اليقين المضاعف. مضافاً إلى أنّه ليس في وسع التجربة تعيين العلّة المنحصرة. فيبقى احتمال وجود علّة اُخرى تنوب عن العلّة المحرزة على حاله.

371 ـ قوله «وهي منفصلة حقيقيّة»

لا ريب في أنّه يستحيل اجتماع النقيضين وارتفاعهما وأنّه لا واسطة بين الإيجاب والسلب، وأنّ هذا حكم بديهيّ أوّليّ، ويمكن التعبير عن هذا المعنى بقضيّتين حمليّتين بأن يقال: اجتماع النقيضين محال، وارتفاعهما محال. فيكون موضوع إحداهما «اجتماع النقيضين» وموضوع الاُخرى «ارتفاع النقيضين» ويكون المحمول في كلتيهما مفهوم «محال».

ومن المعلوم أنّ مفهوم المحال أوالممتنع مأخوذ من موادّ القضايا، فكلّ واحدة من هاتين القضيّتين مأخوذة من قضيّة اُخرى بإقحام المحمول في الموضوع وجعل المادّة محمولاً، فكان الأصل هكذا: النقيضان لا يجتمعان بالضرورة، ولايرتفعان


1. راجع: الاُسس المنطقيّة للاستقراء.

بالضرورة وهذا هو الشكل الثاني لبيان ذلك المعنى البديهيّ، والموضوع فيهما عنوان انتزاعيّ من قبيل المعقولات الثانية الفلسفيّة.

ويمكن التعبير عنه بوجه ثالث بأن يقال: النقيضان لا يُحملان على موضوع واحد، ولا يُسلبان عنه. فالقضيّة الاُولى ناظرة إلى موجبتين تكون إحداهما معدولة المحمول، والقضيّة الثانية ناظرة إلى سالبتين كذلك. وهذا الوجه يرجع إلى اعتبار التناقض في المفردات.

لكنّ الاُستاذ(قدس‌سره) حاول إرجاع القضيّتين إلى قضيّة واحدة على شكل المنفصلة الحقيقيّة بأن يقال: القضيّة إمّا أن يكون إيجابها صادقاً وسلبها، كاذباً، وإمّا أن يكون إيجابها كاذباً وسلبها صادقاً. فموضوع هذه المنفصلة الحقيقيّة هو ذات القضيّة بصرف النظر عن الإيجاب والسلب. فالموضوع من المعقولات الثانية المنطقيّة، ويكون المحمول مأخوذاً من قضيّة اُخرى حاكية عن صدق قضيّة ثالثة وكذب قضيّة رابعة. وعلى هذا فاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما من الأحكام المنطقيّة ويكون موضوعها قضيّتين متناقضتين، ويؤول الأمر إلى اعتبار التناقض بين الصدق والكذب بالأصالة، وقد مرّ الكلام فيه تحت الرقم (222). والأبسط الأقرب هو الوجه الثاني، وهو الأنسب بالمباحث الفلسفيّة.

وأمّا أنّ هذا الحكم بديهيّ أوّليّ فيمكن بيانه بناءاً على الوجه المذكور بهذا الشكل:

إنّ مفهوم «عدم الاجتماع» الذي هو محمول القضيّة مأخوذ في مفهوم الموضوع أي النقيضين ومندرج في تعريفه، فالقضيّة تحليليّة ينحلّ موضوعها إلى المحمول، ولهذا تكون من البديهيّات الأوّليّة.

372 ـ قوله «وإليها تنتهي جميع العلوم النظريّة والبديهيّة»

يعني أنّه كلَّما حصلنا على قضيّة معلومة سواء كانت بديهيّة أو نظريّة أجرينا عليها

قياساً استثنائيّاً بهذا الشكل: إمّا أن تكون هذه القضيّة صادقةً ونقيضها كاذباً وإمّا أن تكون كاذبةً ونقيضها صادقاً. لكنّها صادقةٌ فيكون نقيضها كاذباً. فيحصل لنا اليقين المضاعف أي العلم بصدق الأصل وكذب النقيض. ولو لم تكن تلك المنفصلة معلومة لنا لكان من المحتمل صدق النقيضين معاً، ولم نكن نستطيع نفي احتمال الخلاف، ولهذا سمّيت باُمّ القضايا واُولى الأوائل.(1)

والحاصل أنّ كلَّ قضيّة تحتاج في نفي احتمال النقيض إلى قضيّة استحالة الجمع بين النقيضين. وعليه يحمل كلام صدر المتألّهين حيث شبّه نسبة هذه القضيّة إلى سائر القضايا بنسبة الواجب إلى الممكنات،(2) لا ما يتراءى منه أنّ نفس هذه القضيّة تكفي لإثبات سائر القضايا وتحصيل العلم بجميع المعلومات.

ثمّ إنّ من الواضح أنّ حصول الاعتقاد الجزميّ بأيّة قضيّة لا يتوقّف على الالتفات إلى هذه القضيّة، بل غاية ما يمكن أن يقال في توقّف سائر القضايا على هذه القضيّة أنّ الالتفات إلى استحالة نقيضها يتوقّف على الالتفات إلى هذه القضيّة، بل يمكن منع هذا التوقّف أيضاً، خاصّةً بالنظر إلى اعتبارها من القضايا المنطقيّة، فليتأمّل.

373 ـ قوله «تنبيه»

يتحدّث تأريخ الفلسفة عن أشخاص كانوا يعيشون في اليونان في عصر سقراط، وكانوا يسمَّون بـ «سوفيست» بمعنى الحكيم، وقد اُخذ عنه السوفسطيّ والسفسطة في اللغة العربيّة. وكانت لهم آراء شاذّة حول مسائل المعرفة من إنكار المعقولات


1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: تعليقة صدر المتألّهين على الشفاء: ص‌‌38؛ وراجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌348؛ وراجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌90؛ وج3: ص‌‌443.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌3، ص‌‌444.

والقيم الأخلاقيّة، وأغربها ما حكي عن واحد منهم باسم «جورجياس» أنّه قال في كتاب له أن لا وجود لأيّ شيء، ولو كان هناك موجود لم يمكن معرفته، ولو كان يمكن معرفته لما أمكن تعريفه للآخرين!

وبالرغم من عدم صمود هذه الآراء تجاه الهجمات العنيفة التي شنّتها عليها الفلاسفة كسقراط وأفلاطون وأرسطو، فقد أورثتْ نزعاتٍ تبلورتْ في آراء الشكّاكين واللاأدريّين، حتّى انتهت إلى المثاليّة والنسبيّة وغيرهما من مدارس الشكّ في الفلسفة الغربيّة إلى يومنا هذا.

ونحن لا نملك معلوماتٍ واسعةً عن عقائد السوفسطيّين والد وافع التي دفعتهم إلى هذا الاتّجاه المتطرّف الذي كان يحمل أشدَّ الأخطار على الفكر والأخلاق، وليس لدينا ما يسمح بإصدار حكم قاطع بشأنهم، ولأجل ذلك نتلقّى ما حكي عنهم كشبهات تتطلّب أجوبة حاسمة.

وقد تعرّض الشيخ لبعض هذه الشبهات ودفعها، وللعلل التي توجب تحيُّر الضعفاء وطريق علاجها، وتبعه على ذلك من تأخّر عنه.(1)

374 ـ قوله «السوفسطىّ...»

إذا كان السوفسطيّ منكراً لمطلق العلم كان مفتاح تبكيته أن يُلزَم بأنّ إنكاره هذا لا يجتمع مع عدم الإنكار، فيُقرّ بعلمه باستحالة اجتماع النقيضين، ثمّ يؤخذ منه الاعتراف بوجود نفسه وشكّه وهكذا. وأمّا إذا أبدى الشكَّ في هذه الاُمور أيضاً لم ينجح محاجّته، ومثل هذا الشخص إمّا أن يكون معانداً فليؤدّب، وإمّا أن يكون


1. راجع: الفصل الثامن من المقالة الأولى من إلهيّات ‏الشفاء؛ وراجع: تعليقة صدر المتألّهين علي إلهيّات الشفاء: ص‌‌3941؛ والتحصيل: ص‌‌292؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌349ـ351؛ والمطارحات: ص‌‌212؛ والأسفار: ج‌1، ص‌‌90؛ وج3: ص‌‌445.

مصاباً في عقله فليسلّم إلى الطبيب. والوجه في ذكر شبهات السوفسطيّين في هذا الموضع أنّ مفتاح حلّ تلك الشبهات هو إلزامهم بقبول الأوّليّات ولا سيّما قضيّة استحالة اجتماع النقيضين.

375 ـ قوله «ويدفعه أنّ الإنسان ربما يخطئ...»

إذا كان المدّعى نفي أي واقعيّة وراء النفس وإدراكاتها أو الشكَّ في ذلك اتّجه هذا الدفع. فإنّه لا معنى لوقوع الخطأ في الإدراك إلاّ عدم مطابقته لما يحكي عنه، فقبول الخطأ في الإدراك ينطوي على قبول الواقع الخارجيّ. ومن الطريف أنّ بعض المثاليّين استدلّوا على نفي الواقع المادّيّ بوجود الخطأ في الإدراكات الحسّية، مع أنّه نعم الدليل عليه نفسه. أمّا إذا كان المدّعى نفي العلم بحقائق تلك الواقعيّات بعد الاعتراف بوجودها في الجملة فلا يجدي هذا البيان. ومثل هذا الشخص المفروض يمكنه أن يفرّق بين إدراك النفس وشؤونها وإدراك ماوراء النفس بأنّ الأوّل علم حضوريّ غير قابل للخطأ بخلاف الثاني.

376 ـ قوله «ويدفعه أنّه إذا كان الحسّ...»

المراد هدم المبنى القائل إنّ كلّ علم ينتهي إلى الحسّ، بأنـّه لو كان كذلك لم يحصل لنا علم بعدم مطابقة الإدراكات الحسّية للمدرَكات المحسوسة، فليس هناك حاسّة تفيدنا هذا العلم، ولو كان لنا مثل هذه الحاسّة لكانت إدراكاتها غير مطابقة للواقع على الفرض فكان نفس هذا الاعتقاد أيضاً غير مطابق للواقع. فيُعلم أنّ لنا مبدءاً آخر للإدراك وراء الحواسّ، وهو العقل، وخطأ الحواسّ لا يمسّه بسوء. وقد مرّ الكلام في أنّ قسماً من العلوم ينتهي إلى الحسّ لا جميعها، فراجع الرقم (360).

377 ـ قوله «كما أنّ مآل القول...»

إن كان مراد القائل بالأشباح أنّ جميع الصور الذهنيّة حتّى المعقولات المأخوذة عن المعلومات الحضوريّة ليست إلاّ أشباحاً غير مطابقة لمحكيّاتها أدّى ذلك إلى السفسطة وإنكار مطلق العلم الحصوليّ، أمّا إذا كان مراده خصوص الصور الحسيّة فدفعه يحتاج إلى بيان آخر.

378 ـ قوله «إن كان نفسه قولاً نسبيّاً»

يعنى أنّه إذا كان نفس هذا الكلام «العلوم نسبيّة» إنّما يصدق نسبيّاً كان معناه أنّه لا يصدق في بعض الموارد، فهناك علم غير نسبيّ، فيكون مطلقاً. وإمّا إذا كان هذا الكلام يصدق مطلقاً فهو نفسه علم مطلق.

379 ـ قوله «نعم في العلوم العمليّة...»

سيأتي في الفصل اللاحق أنّ من المفاهيم ما يعتبر لأجل حاجة المجتمع وتأمين مصلحته، فاعتباره تابع لتلك الحاجة والمصلحة، فيصحّ عدّ مثل هذه المفاهيم والقضايا المتشكّلة منها نسبيّاً بهذا المعنى.

الفصل العاشر

380 ـ قوله «ينقسم العلم الحصوليّ إلى حقيقيّ واعتباريّ»

مقسم هذا التقسيم في الأصل هو التصوّر، ووصف التصديقات بهما بالنظر إلى التصوّرات التي تتعلّق بها. والحقيقيّ ههنا اصطلاح خاصّ منسوب إلى الحقيقة بمعنى المهيّة، ويساوي المفهوم الماهويّ، وينحصر في المقولات وأنواعها، بناءا

على كون نفس المقولات من المفاهيم الماهويّة كما هو المشهور. وأمّا نفس مفهوم الماهيّة وكذا مفهوم العرَض ـ على القول المشهور ـ فهما من المفاهيم الاعتباريّة. وغير خفيّ أنّ هذا الاصطلاح أنسب بالقول بأصالة المهيّة.

ثمّ إنّ لفظة «الاعتباريّ» تطلق على معانٍ مختلفة قد أشرنا اليها تحت الرقم (10) وستأتي الإشارة إلى بعضها في المتن. والمراد به ههنا مطلق المعقولات الثانية، سواء كانت فلسفيّة أو منطقيّة. أمّا الفلسفيّة فتنقسم إلى قسمين: قسم منها يحكي عن الوجود وشؤونه، فمصداقه الوجود العينيّ، وقسم منها يحكي عن عدم الوجود، فيفرض له مصداق. وأمّا المفاهيم المنطقيّة فلها مصاديق ذهنيّة فقط.(1) واعلم أنّ شيخ الإشراق بذل جُهداً بالغاً في تبيين الاعتبارات العقليّة وتمييزها عن المفاهيم الماهويّة، وتقسيمها إلى الذهنيّة والعينيّة وإن كان في كلماته مواقع للنظر.(2)

381 ـ قوله «بيان ذلك أنّ النفس...»

لم نجد في كلمات القوم إشارةً إلى كيفيّة انتزاع مفهوم الوجود وتعرُّف الذهن عليه، وإنّما اكتفَوا بأنّ مفهومه بديهيّ التصوّر بل هو أوّل التصوّرات البديهيّة وأعرفها. وإنّما سيّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) هو أوّل من تعرّض له من فلاسفتنا في من نعلم.

وحاصل بيانه أنّ النفس تنشيء وجوداً رابطاً بين جزئي القضيّة ـ كما مرّ ذكره في الفصل الثامن من هذه المرحلة ـ وهذا الوجود الرابط من حيث إنّه فعل صادر من النفس وجود خارجيّ تَعلم به علماً حضوريّاً، ومن حيث إنّه يحكي عن اتّحاد الموضوع والمحمول في الخارج يُعدّ مفهوماً، فهذا الوجود الذي يكون وجوداً بالحمل


1. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌332ـ339.

2. راجع: التلويحات: ص‌‌21ـ26؛ وراجع: المقاومات: ص‌‌125ـ128؛ والمطارحات: ص‌‌340ـ371؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌64ـ73.

الأوّليّ وبالحمل الشائع كليهما هو مبدء تعرّف الذهن على مفهوم الوجود. لكنّه معنى حرفيّ غير قابل للحكاية عن الوجودات المستقلّة، فتعمد النفس وتنظر إليه نظراً استقلاليّاً، كما تنظر إلى الحروف ذلك النظرَ فتحكي عنها كمعنى اسميّ، كما يقال: مِنْ للابتداء. وهكذا تنتزع مفهوم الوجود المضاف إلى المحمول، كوجود القيام، ثمّ تجرّده عن تلك الإضافة أيضاً فتنال مفهوم الوجود المستقلّ كمعنى اسميّ عامّ.

ويجري نظير هذا البيان في انتزاع مفهوم العدم، فإنّ في القضايا السالبة أيضاً يُعتبر حكم عدميٌّ، وإن لم يكن حكماً حقيقيّاً على رأي الاُستاذ(قدس‌سره) فتَعتبر ذلك عدماً رابطاً، ثمّ تنتزع عنه مفهومَ عدم المحمول، ثمّ تُجرّده عن الإضافة فيحصل مفهوم العدم على نعت الإطلاق.

لكنّ الالتزام بمثل هذا البيان في سائر المفاهيم الفلسفيّة مشكل جدّاً، فليس هناك مثلاً وجوداتٌ حاضرةٌ عند النفس تكون علَّةً ومعلولاً بالحمل الأوّليّ والحمل الشائع معاً، وإذا كان يكفي في أمثالها أن تكون وجودات حاضرة عند النفس ويكون تأثيرها أو تأثّرها معلوماً لها علماً حضوريّاً فِلمَ لا نقول بكفاية حضور وجود عينيّ عندها لانتزاع مفهوم الوجود منه؟ نعم، يبقى السؤال عن سبب عدم انتزاع مفهوم الوجود لأوّل وهلة تشاهد وجوداً مّا، ولأوّل مرّة تلتفت إلى وجودها. والجواب أنّ الذهن إنّما يستعدّ لانتزاع هذه المفاهيم بعد مقايسة مصاديقها بمقابلاتها، كمقايسة وجود شيء بزواله، ومقايسة العلّة إلى معلولها، وهكذا. وهذا هو السرّ في كون هذه المفاهيم مزدوجة.

382 ـ قوله «الثالث: المعنى التصوّريّ أو التصديقيّ...»

إنّ في ما يتعلّق بعمل الإنسان مفاهيمَ وقضايا مختلفة تتطلب تبييناً فلسفياً من جهات متعدّدة: فهناك عبارات إنشائيّة ليست من قبيل القضايا ولا تحكي بمداليلها المطابقيّة

عن واقعيّات وراءها، فلا تحتمل الصدق والكذب، وإنّما تدلّ بالالتزام على مطلوبيّة متعلّقاتها للمنشيءين، كالأوامر والنواهي الشرعيّة والتكاليف القانونيّة والعرفيّة. وهناك قضايا حمليّة أو شرطيّة يمكن إرجاعها إلىالحمليّات، وربما تخلف العباراتِ الإنشائيّة، كالحكم بحسن فعل أو قبحه ووجوبه أو حرمته أو جوازه، ومثل القضايا التي تثبت أحكاماً وضعيّة كالصحّة والفساد والمالكّية والزوجيّة ونحوها وتنقسم هذه القضايا إلى فقهيّة وأخلاقيّة وقانونيّة (حقوقيّة). وتنقسم الأخيرة بدورها إلى مدنيّة واقتصاديّة وجزائيّة وسياسيّة وغيرها. وجميع هذه العبارات الإنشائيّة والخبريّة تشتمل على أنواع من المفاهيم الاعتباريّة، مثل ما يقع متعلّقاً للأحكام القيميّة كالملك والحقّ والزوج ونحوها، وما يقع متعلّقاً للإنشاء أو ينتزع من الأمر والنهي كالوجوب والحرمة.

فالبحث عن هذه المفاهيم والقضايا يدور حول اُمور من أهمّها:

الف) كيف تحصل المفاهيم المأخوذة في هذه العبارات وكيف يتعرّف الذهن عليها، وتحت أيّ نوع من أنواع المفاهيم تندرج؟

ب) هل العبارات القيميّة والمتعلّقة بالأعمال الاختياريّة كلّها إنشائيّة، وحتّى ما يكون بحسب ظاهر اللفظ قضيّة خبريّة يرجع إلى الإنشاء، أو يكون الأمر بالعكس، أو الموارد مختلفة: فالأصل في بعضها هو الإنشاء وفي بعضها الآخر هو الإخبار؟

ج) هل القضايا القيمية كلّها تابعة لأميال ورغبات للأفراد أو المجتمعات، أو لجميعها رصائد واقعيّة تستند تلك القضايا إليها، أو هي مختلفة في ذلك؟ وإذا كانت هناك ملاكات حقيقيّة فما هي تلك الملاكات؟

د) ما هو الفرق بين القضايا الشرعيّة والأخلاقية والقانونية؟ وهل يرجع ذلك الفرق إلى ملاكاتها الواقعيّة إذا كان هناك مثل تلك الملاكات؟

ومن الواضح أنّ المجال لا يَسَعُ إشباعَ الكلام حول هذه المَحاوِر، فسوف نكتفي ببيان موجز في كلّ باب.

أمّا المحور الأوّل فقد تصدّى الاُستاذ(1) لتبيينه بأنّ المفاهيم المختصّة بهذا الباب استعيرت من سائر المفاهيم ـ أعمَّ من المعقولات الاُولى والثانية ـ وتُشكّل نوعاً خاصّاً من الاعتباريّات.

وجدير بالذكر أنّه ذكر في مبحث الاعتباريّات من «اُصول فلسفه» أنّ الوجوب المستعمل في هذا الباب مستعار من الوجوب بالغير الذي هو من المعقولات الفلسفيّة، لكنّ الأولى جعله مستعاراً من الوجوب بالقياس الذي تتّصف به العلّة أيضاً بالقياس إلى معلولها، لأنّ الفعل سبب لحصول الغاية ويعدّ واجباً لأجل التوصّل به إلى تحصيل الغاية المطلوبة بالأصالة.

ولْيُعلمْ أنّ إطلاق الاستعارة ههنا ليس يعني الاستعارة في علم البيان بعينها، فإنّ هذه الإطلاقات حقيقيّة بحسب عرف المحاورة، وإنّما تشير إلى بدء انتقال الذهن من سائر المفاهيم إلى هذه الاعتباريّات الخاصّة.

وأمّا المحور الثاني فزعم بعض فلاسفة اُروبا المتأخّرين أنّ العبارات القيميّة كلّها إنشائيّة لا تحتمل الصدق والكذب، ولهذا يصبح البحث عن صحّتها وسقمها لغواً، وإنّما هي رغبات الناس أو الحكّام تتبلور في تلك الإنشاءات، وليس تصحّ إدانة تشريع كما لا يصحّ إدانة أحد في انتخاب لون اللباس. ومن هنا نشأت نظريّة النسبيّة والوضعيّة في الأخلاق والحقوق، التي تؤدّي إلى هلاك القيم الأخلاقيّة والدينيّة، وانهيار أسس الفضائل والكمالات الإنسانيّة. وقد تبنّى هذا الأصلَ بعض المسلمين وحاول إثبات مبدء ذاتيّ للقيم وهو الله تعالى كما أنّه مبدء ذاتيّ للوجود، ممّا يؤدّي في أحسن وجوهه إلى النزعة الأشعريّة في الحسن والقبح.

وواضح أنّ المجال يضيق بنا عن نقد هذه الآراء السخيفة ونقض المغزولات الواهية، ولهذا نركّز على أهمّ النكات فنقول:

القيمة ـ بمعناها الخاصّ ـ عبارة عن مطلوبيّة الفعل الاختياريّ بتبع مطلوبيّة

غايته، فإن كانت الغاية المطلوبة بالأصالة كمالاً حقيقيّاً للإنسان مطلوباً له بفطرته كان الفعل المؤدّي إليها ذا قيمة مطلقة، وإذا كانت الغاية كمالاً مقدّميّاً صار الفعل ذا قيمة محدودة بقدر ما يؤثّر في التوصّل إلى الغاية القصوى. والوجوب المستعمل في هذا الباب أو ما يؤدّي معناه كهيئة الأمر مأخوذ من الوجوب بالقياس كما أشرنا إليه، وهو الذي يشكّل مادّة القضيّة. وبهذا تتضّح العلاقة بين المفاهيم الواقعيّة والمفاهيم القيميّة، وكيفيّة استنتاج القضايا القيميّة من القضايا الواقعيّة، فتفطّن.

فليست القيمة ناشيءة عن الأمر والإنشاء، فإنّ الإنشاء قد يستعمل في اُمور غير قيميّة كأمر المعلّم بتركيب عنصرين للحصول على ظاهرة كيمياويّة خاصّة، أو بالقيام بعمليّة رياضيّة للحصول على نتيجتها. وقد يستعمل في روابط اجتماعية ساذجة كأمر الخادم بإحضار الطعام، ويكون منشأه غالباً رغبة الآمر في موضوع الأمر، ولا يثبت بذلك قيمة للفعل في حدّ نفسه، وإذا كانت هناك قيمة فإنّما هى لإطاعة ذلك الأمر، ويعتبر الأمر موضوعاً لها فقط. وقد يستعمل في الأفعال القيميّة المطلوبة لجميع العقلاء أو لطائفة منهم كالأوامر الشرعيّة والتشريعيّة، ويلعب دور تعيين القيمة وتثبيتها، كما أنّه قد يعبّر عنها بقضايا خبريّة كالإخبار عن حسن الفعل وقبحه. وتفصيل الكلام موكول إلى فلسفات الأخلاق والتشريع والسياسة.

وأمّا المحور الثالث فمقتضى النزعة المشار إليها أنّ القيمة تابعة لرغبات الناس وأميالهم، وليس وراءها حقائق ثابتة تستند إليها، كما أنّه ليس هناك ما تُدان به رغبة دون اُخرى. لكنّ الحقّ أنّ القيم تابعة لعلاقات واقعيّة بين الأفعال الاختياريّة وغاياتها المترتّبة عليها. والفرق بين القضايا القيميّة وغيرها أنّها تكشف عن علاقة الأسباب الاختياريّة بغايتها المطلوبة لذاتها، بخلاف القضايا الواقعيّة، حيث لا يشترط فيها أن تكون المعلولات مطلوبة بالفطرة أو مؤدّية إلى الكمال الحقيقيّ والسعادة الأبديّة، ولا أن تكون أسبابها أفعالاً اختياريّة.

نعم، يمكن أن يُعتبر بعض الأفعال ذا قيمة عند بعض الطوائف دون بعض، فتختلف وتتدافع القيم الاجتماعيّة، لكنّ السرّ في هذا التعارض هو اختلاف الناس في معرفة الهدف الأعلى وفي معرفة الطرق المؤدّية إليه. ولا محالة يكون بعض الآراء صائبة وبعضها خاطئة، ولهذا تصحّ إدانة الآراء الخاطئة وتوضيح بطلانها ببيان ما يترتّب عليها من المفاسد ومنع الفرد والمجتمع عن نيل ما يبتغيه من المصالح. وبهذا يظهر أنّ للقيم الحقيقيّة رصائدَ واقعيةً، وتصحّ البرهنة لها باعتبار تلك الرصائد، كما يصحّ الاستدلال على القيم الزائفة ببيان بطلان ما اعتبرته من الأهداف وما اتّخذتْه من الوسائل والسبل لتحقيقها.

ولمّا كان تقييم الأفعال رهنَ معرفةِ علاقاتها الغامضة والمعقّدة بجميع شؤون الإنسان من الفرديّة والاجتماعيّة، الجسديّة والروحيّة، والدنيويّة والاُخروية وترجيحِ بعض المصالح على بعض عند التزاحم ممّا لا يتيسّر للأشخاص العاديّين كانت إقامة البرهان في جميع الموارد في حدّ المحال. وهذا هو سرّ حاجة الإنسان إلى منبع آخر للمعرفة وهو الوحي والنبوّة.

وللنسبيّة في الأخلاق والتشريعات معنى آخر يرجع إلى أخذ قيود وشروط مكانيّة وزمانيّة وغيرها في موضوعات القضايا، وذلك لا يختصّ بالقضايا القيميّة، فإنّ للقضايا الواقعيّة أيضاً قيوداً وشرائط تختصّ بها، وهذه القيود لا تنافي إطلاق القضيّة في دائرة مدلولها، كما أنّها لا تعني كونها جزافيّة غير مستندة إلى ملاكات حقيقيّة.

وأمّا المحور الرابع فالفرق بين القضايا الأخلاقيّة والقوانين الوضعيّة أنّ الغاية المنشودة للقيم الأخلاقيّة هي وصول الإنسان إلى كماله الحقيقيّ وسعادته الأبديّة، بينما تكون غاية القوانين الوضعيّة تأمين مصالح المجتمع في هذه الدنيا بما أنّها قوانين وضعيّة اجتماعيّة، وتتّسم بضمان الإجراء من ناحية الحكومة. نعم، يمكن

أن تكون قضيّةٌ واحدة بعينها أخلاقيّةً من جهة ووضعيّةً من جهة اُخرى، فيكون لكلِّ من الجهتين حكمها ولوازمها. وأمّا القضايا الشرعيّة فتختصّ بكون المشرّع هو الله تعالى بالمباشرة أو بوساطة من نصبه لذلك من المعصومين، ولهذا فلا سبيل للخطأ إليها بوجه. وتعمّ الأحكام الأخلاقيّة والقانونيّة وغيرها ممّا يحتاج إليه الإنسان في حياته.

والأنظمة المختلفة تجتمع في النظام الكلّيّ الإسلاميّ كحلقات مرتبطة ببعضها، ويُسيطر على الجميع النظامُ الأخلاقيّ الهادف إلى الغاية القصوى. فغايات سائر الأنظمة تصير كغايات متوسّطة للنظام الجامع، وتتبلور غايته النهائيّة في غاية النظام الأخلاقيّ، وتتحدّد سائر الغايات والقيم التابعة لها على ضوء غاية النظام الأخلاقيّ.

383 ـ قوله «وأمّا أنّها لا برهان عليها...»

القضايا الاعتباريّة بما لها من المفاهيم المستعارة من الحقائق لا تتوفّر فيها شرائط البرهان، ولا تستنتج من مقدّمات كذلك، لكنّ القضايا المستندة إلى الحقائق تمكن البرهنة عليها بالنظر إلى تلك الحقائق، كما أشرنا إليه آنفاً.

384 ـ قوله «ويظهر أنّ القياس الجاري فيها جدل»

ذكر المنطقيّون أنّ الجدل يتشكّل من المقدّمات المشهورة والمقبولة، لكن لا يعني ذلك أنّ المقدّمات المشهورة غير يقينيّة وغير صالحة لتشكيل البرهان مطلقاً، بل ربما تكون نظريّة تحتاج إلى برهان، وقد يكون صدقها مشترطاً بشرط خفيّ غير مذكور في القضيّة. فمثل هذه القضايا بصرف النظر عن إقامة البرهان عليها وبشكلها المطلق لا تصلح للبرهان.

قال الشيخ في برهان الشفاء: «بل المشهورات هذه وأمثالها منها ما هو صادق ولكن يحتاج في أن يصير يقيناً إلى حجّة، ومنها ما هو صادق بشرط دقيق لا يفطن له الجمهور».(1)

فالقضيّة المشهورة إذا كانت مستندة إلى برهان كانت يقينيّة، والتي لها شرط دقيق إذا أخذ فيها ذلك الشرط كانت يقينيّة وجاز تشكيل البرهان منها وعليها. وأمّا النصوص المتلّقاة من الوحي ونحوه فهي لا تقصر عن المتواترات في إفادة اليقين، فتبصّر.

الفصل الحادي عشر

385 ـ قوله «إن كانا مجرّدين»

قد مرّ الرقم (353 و 356) أنّ تجرّد المعلوم في العلم الحضوريّ بالغير غير لازم، وأنّ غيبوبة المادّي عن ذاته لا يستلزم غيبوبته عن فاعله المفيض، كيف والمعلول مادّياً كان أو مجرّداً ليس إلاّ عين الربط بالعلّة فهي مهيمنة عليه ومحيطة به بتمام معنى الكلمة، ولا يتمّ ذلك إلاّ بحضوره عندها.

386 ـ قوله «قد تقدّم أنّ كلّ علم حصوليّ...»

هذا بيان لإثبات علم أحد المعلولين المجرّدين بالآخر علماً حضوريّاً، وتقريره أنّه قد تقدّم أنّ حقيقة العلم الحصوليّ ليست إلاّ مشاهدة الصورة العقليّة أو المثاليّة عن


1. راجع: الفصل الرابع من المقالة الأولي من برهان الشفاء؛ وراجع: الخامس من أولي السادس من طبيعيات الشفاء.

بُعد، فالنفس والصورة المجرّدة التي تشاهدها وتعلم بها علماً حضوريّاً معلولان لعلّة ثالثة، فيثبت علم أحدهما بالآخر علماً حضوريّاً.

وقد مرّت المناقشة في رجوع العلم الحصوليّ إلى الحضوريّ بهذا المعنى، فراجع الرقم (355)، كما أنّه قد أشرنا تحت الرقم (358) إلى ما في إثبات العلم الحضوريّ لمعلولي علّة ثالثة ببعضهما بالبيان الفلسفيّ من الصعوبة.

الفصل الثاني عشر

387 ـ قوله «كلّ مجرّد فإنّه عقل...»

هناك مسألتان: إحداهما أنّ كلّ مجرّد يكون وجوده لنفسه فهو عالم بذاته، ومعلوم لذاته، وهو نفس العلم بذاته. وإنّما اعتبرنا قيد الوجود لنفسه في عنوان المسألة لما سيأتي في آخر الفصل أنّ هذا الحكم يختصّ بما يكون كذلك. وقد أسلفنا ذلك تحت الرقم (353 و 356).

وثانيتهما أنّ كلّ مجرّد فهو علم ومعلوم لكلّ ما يصلح للعالميّة به، وإذا كان وجوده لنفسه وكان تامّ التجرّد أيضاً كان عالماً بكلّ ما يصلح للمعلوميّة. وذلك الغير الذي يصلح للعالميّة والمعلوميّة حضوراً إمّا أن يكون علّته، أو معلولَه المجرّد ـ عند من يشترط التجرّد في المعلوميّة مطلقاً ـ أو شريكَه في المعلوليّة لثالث إذا ثبت العلم الحضوريّ لمعلوليْ علّة ثالثة ببعضهما.

أمّا المسألة الاُولى فقد تصدّى(قدس‌سره) لإثباتها بادئاً بإثبات معلوميّة المجرّد لذاته. وتقريره أنّ كلّ مجرّد فهو بما أنّه مجرّد يكون أمراً بالفعل، فهو واجد لشرط المعلوميّة، فيمكن أن يكون معلوماً، والإمكان في المجرّدات يساوق الفعليّة، فهو معلوم بالفعل. ولمّا كان المعلوم والعلم متّحدين

مصداقاً ومختلفين اعتباراً ثبت كونه عين العلم. وأمّا العالميّة فشرطها الكافي هو التجرّد وكون الوجود لنفسه، فالجوهر المجرّد يكون عالماً بنفسه، فثبت المطلوب.(1)

لكنّ الأولى إثبات العالميّة أوّلاً ثمّ ترتيب المعلوميّة عليها، لأنّ فعليّة عنوان المعلوميّة فرع على فعليّة وجود العالم، كما سبقت الإشارة إليه تحت الرقم (357).

وأمّا المسألة الثانية فقد اكتفى بدعوى جريان البرهان المذكور في المسألة الاُولى فيها أيضاً، ثمّ تعرّض لإشكال كتبه إلى الشيخ الرئيس بعض معاصريه،(2) وهو أنّ لازم ذلك كون النفس عالمة بجميع المعلومات، والوجدان يدفعه. وأجاب عنه بأنّ شرط العالميّة بجميع المعلومات هو التجرّد التامّ، وهو غير موجود في أنفسنا مادام بعض كمالاتها لم يخرج إلى الفعليّة بعدُ. ولهذا اعتبرنا في عنوان المسألة أن يكون العالم تامَّ التجرّد.

لكن تُمكن المناقشة في جريان ذلك البرهان في علم أحد المعلولين بالآخر حضوراً بمنع إمكان العالميّة والمعلوميّة لكلّ منهما بالنسبة إلى الآخر، لعدم كون أحدهما رابطاً قائم الذات بالآخر كما في العلّة والمعلول، وقصورِ ما يُثبت نحواً آخر من الحضور لهما، فليتأمّل.

الفصل الثالث عشر

388 ـ قوله «في أنّ العلم بذي السبب...»

تثار حول هذا العنوان تساؤلات كما يلي:


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌447461؛ وراجع: النمط الثالث من الإشارات.

2. نفس المصدر: ص‌‌458.

الف) هل يشمل العلم المذكور في العنوان كلَّ علم، سواء كان حضوريّاً أو حصوليّاً، وسواء كان الحصوليّ بديهيّاً أو غير بديهيّ إلى غير ذلك من الأقسام أو يختصّ بقسم خاصّ منها؟ وعلى الأخير فما هو ذلك القسم؟

ب) هل يشمل السبب أنواع العلّة من التامّة والناقصة، والمفيضة والمعدّة، والمقتضي والشرط، وسبب الوجود وسبب القوام، أو يختصّ بقسم خاصّ من الأسباب، وعليه فما هو ذلك القسم؟

ج) كيف يجمع بين هذه القضيّة وما نرى من حصول العلم بذوات الأسباب من غير طريق العلم بأسبابها، كعلمنا الحضوريّ بأنفسنا وكالعلم بالمشاهدات والمجرّبات والمتواترات وغيرها؟ وإذا كان طريق العلم بالمسبّبات منحصراً في العلم بأسبابها لزم عدم حصول العلم بشيء من غير طريق العلم بالواجب تبارك وتعالى لأنّه سبب كلّ ذي سبب، والوجدان يدفعه.

وبصدد الإجابة على هذه الأسئلة نرى من الواجب بيان الغرض من عقد هذه المسألة والنظر في ما استدلّ به لإثباتها، فنقول:

قال الشيخ في منطق الشفاء ما حاصله: إذا كان ثبوت المحمول للموضوع معلولاً لعلّة مّا كانت النسبة الضروريّة بينهما لأجل وجود تلك العلّة، وإلاّ كانت النسبة بينهما بالإمكان لا بالوجوب. وحيث إنّ مقدّمات البرهان يجب أن تكون بحيث تنتج علماً ضروريّاً بالنتيجة كان من الواجب أن يكون الحدّ الأوسط علّة لثبوت المحمول للموضوع إذا كان لذلك الثبوت علّة، ومثل هذا البرهان يسميّ لميّاً. وأمّا إذا لم يكن ثبوت المحمول للموضوع معلولاً لعلّة توجبه بل كان ذاتيّاً له (بالمعنى المصطلح في كتاب البرهان).(1)


1. إنّما أضفنا هذا التوضيح لأنّ الذاتيّ المصطلح في كتاب إيساغوجى لا يكون إلاّ بيّناً، فتفطّن.

فلا يخلو إمّا يكون ذلك بيّناً بنفسه فلا يحتاج إلى برهان، وإمّا أن يكون غير بيّن، فالعلم به يحصل إمّا بالاستقراء أو من طريق الملازمة بينه وبين لازمٍ آخرَ بيّنٍ، وهو برهان الإنَّ المطلق. وأمّا الاستدلال بالمسبّب فلا يفيد علماً بالسبب المعيّن، لاحتمال تحقّق المسبّب من غير هذا السبب، إلاّ إذا علم بانحصار السبب التامّ.(1)

وبالتأمّل في كلامه هذا يتّضح أوّلا أنّ الغرض من عقد هذه المسألة هو بيان الفرق بين البرهان اللمّي المفيد للعلم الضروريّ والدليل الذي لا يفيد ذلك العلم، وبيان المورد الذي لا يحصل العلم الضروريّ فيه إلاّ من طريق برهان اللمّ.

وثانيا أن المراد بالعلم ههنا هوالعلم المكتسب بالبرهان دون العلم الحضوري والعلم الحصوليّ البديهيّ والعلم المتغيّر الجزئيّ. ومنه يظهر الجواب عن السؤال الأوّل.

وثالثا أنّ المراد بالسبب هو السبب التامّ لثبوت المحمول للموضوع لا مطلق الأسباب. وهذا هو الجواب عن السؤال الثاني.

وبعد اتّضاح هذه النكات يظهر الجواب عن السؤال الثالث أيضاً، وهو أنّ هذه العلوم التي لا تحصل من طريق العلم بالأسباب هي علوم غير مكتسبة بالبرهان، فلا تدخل في موضوع المسألة.

ثمّ إنّ الإمام الرازيّ عقد فصلاً خاصّاً لبيان أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول دونالعكس، وفصلاً آخر لبيان أنّ العلم بذوات الأسباب لا يحصل إلاّ بالعلم بأسبابها،(2) وتبعه على ذلك صدر المتألّهين في الأسفار، لكنّه عمّم البحث إلى جميع العلوم حتّى


1. راجع: الفصل الثامن والفصل التاسع من المقالة الاُولى من كتاب البرهان.

2. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌357ـ363.

العلم الحضوريّ بالنفس، وذكر لتوجيهه بياناً غامضاً.(1) ومن الواضح أنّه خروج عن مورد المسألة التي ذكرها الشيخ،(2) وفى كلامهما مواقع للنظر لا نطيل بذكرها.

389 ـ قوله «ممتنعاً استناده إلى غيره...»

إشارة إلى قاعدة امتناع صدور الواحد عن الكثير، وقد عرفت منع شمولها لمثل العلل المركّبة. ولو كانت جارية فيها لكان الدليل أيضاً مفيداً لليقين مطلقاً. على أنّ هذه المقدّمة مستغنىً عنها، لأنّ العلم بأحد السببين التّامين أيضاً يوجب العلم بالمسبّب، كما أنّ النسبة بينه وبين معلوله ضروريّة، فافهم.

390 ـ قوله «فإن قلت...»

قد عرفت أنّ مثل هذا العلم خارج عن مورد المسألة عندهم، لاختصاصها بالعلوم المكتسبة بالبرهان، وهم يعدّون المحسوسات من البديهيّات. نعم، بناءاً على كون المحسوسات غير بديهيّة كما هو الحقّ يحتاج التصديق بوجود المحسوسات الخارجيّة إلى برهان، كأن يقال: هذا الأثر الحادث في النفس أمر معلول، فعلّته إمّا أن تكون هي النفس أو ما هو خارج عنها، لكنّ النفس ليست بعلّة له، فعلته موجودة في خارج النفس. وحيث أنّ الحدّ الاوسط ـ وهو عدم عليّة النفس ـ في هذا القياس ليس علّة ولا معلولاً للمطلوب بل يكون أمراً ملازماً له فهو برهان إنّىٌّ مفيد لليقين. واعلم أنّ الشيخ صرّح بأنّ الحكم بوجود المحسوس في الخارج إنّما هو للعقل، وتبعه على ذلك غيره.(3)


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌387403.

2. راجع: نفس المصدر: ج‌6، ذيل الصفحة 229ـ230.

3. راجع: التعليقات: ص‌‌68 و 88 و 148؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌498.

الفصل الرابع عشر

391 ـ قوله «في أنّ العلوم ليست بذاتيّة للنفس»

حكى الإمام الرازيّ القولَ بذاتيّة العلوم للنفس عن بعض القائلين بقدم النفوس، ونقل عنهم حجّةً ضعيفةً ونقدَها. وتبعه على ذلك صدر المتألّهين في الأسفار.(1) ثمّ إنّ الرازيّ حكى القول بالتذكّر عن المحقّقين من القائلين بقدم النفوس مع الاعتراف بعدم كون العلوم ذاتيّة للنفس، ثمّ ذكر حجّة لهم وناقش فيها كما صنع في الأسفار.(2)

392 ـ قوله «فتدبير البدن ذاتيّ لها»

عدُّ تدبير البدن أمراً ذاتيّاً للنفس بمعنى كونها علّة تامّة له ينافي القول بقدمها كما ينافي القول ببقائها بعد مفارقة البدن، لاستلزامهما تخلّف الذاتيّ عن الذات فلابدّ من تأويله إلى الاقتضاء، وعليه فلا منافاة بين تزاحمه مع الالتفات إلى علومه، لإمكان تأويل ذاتيّة العلوم إلى الاقتضاء المستلزم لفعليّتها لولا المانع. فتزاحمهما يضاهي تزاحم الأفعال الصادرة من النفس بوساطة القوى المتعلقّة بالبدن، ممّا هو غير قابل للإنكار.

والأولى أن يقال: إذا كان الاشتغال بتدبير البدن مانعاً عن الالتفات إلى العلوم الذاتيّة المفروضة لما أمكن الالتفات مادام الاشتغال باقياً، وهو باطل بالضرورة. فتوقّف حصول العلم على مقدّماته دليل على أنّ للنفس استعداداً للعلوم فقط، وأنّه مقتضى جوهر ذاته دون فعليّتها. كما أنّ عدم استطاعة الطفل تعقّلَ كثير من المعقولات دليل على عدم حصولها له وتوقّف ذلك على الاكتساب.


1. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌374؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌487.

2. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌376؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌491.

الفصل الخامس عشر

393 ـ قوله «من العلم ما هو فعليّ»

العلم الفعليّ يستعمل بمعنيين: أحدهما ما يقابل الانفعاليّ،(1) وهو ما ذكره ههنا، وثانيهما ما يقابل الذاتيَّ، والمراد به العلم في مقام الفعل دون مقام الذات، كما في العلم بعد الإيجاد.


1. راجع: التعليقات: ص‌‌66؛ و المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌365.

آدرس: قم - بلوار محمدامين(ص) - بلوار جمهوری اسلامی - مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمينی(ره) پست الكترونيك: info@mesbahyazdi.org