قال علي عليه‌السلام : إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا؛ امير مومنان عليه‌السلام مي‌فرمايند: همانا براي شما بهايي جز بهشت نيست، پس به کمتر از آن نفروشيد. (نهج‌البلاغه، حکمت456)

 

المرحلة العاشرة

الفصل الأوّل

341 ـ قوله «في السبق واللحوق...»

هذه المرحلة تشتمل على البحث عن التقدّم والتأخّر، والبحث عن الحدوث والقدم. وقد قدّم في الأسفار البحث عن الحدوث والقدم، والأحسن ما صنعه الاُستاذ(قدس‌سره) في المتن. وقد ذكروا حول التقدّم والتأخّر أبحاثاً، منها البحث عن مفهومهما وكيفيّة الانتقال من بعض أقسامهما إلى بعض، ومنها البحث عن كيفيّة اشتراك المفهومين بين الأقسام، ومنها البحث عن تعداد أقسامهما، إلى غير ذلك.

أمّا مفهوم التقدّم والتأخّر فحاصل ما ذكره الشيخ(1) أنّ معناهما الأقربيّة والأبعديّة عن مبدء محدود، وإليه يرجع ما ذكره في المتن. وعلى هذا فانتزاع هذين المفهومين يتوقّف على تصوّر شيئين مترتّبين وتصوّر مبدء لهما يشتركان في النسبة إلى ذلك المبدء ويفترقان في أنّ لأحدهما من النسبة ما للآخر من غير عكس، كما أنّ الإمام والمأموم يشتركان في النسبة إلى المحراب، لكن للإمام من القرب إليه ما ليس للمأموم.

وربما يُشعر ذلك البيان بضرورة وجود أمر خارج عن المتقدّم والمتأخّر ـ كالمحراب الخارج عن الإمام والمأموم ـ ثمّ قياس كليهما إليه وأخذ تمايزهما في


1. راجع: الفصل الأّول من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء.

النسبة إليه بعين الاعتبار. لكن من المحتمل أن يكون المراد هو الاستعانة بذلك الأمر الخارج على تصوّر الجهة في خطّ الترتّب، فإنّ مجرّد ترتّب الشيئين لا يكفي لانتزاع مفهوم المتقدّم والمتأخّر عنهما، بل يلزم علاوةً على ذلك، أخذ جهة الترتّب بعين الاعتبار، وذلك يتوقّف على اعتبار المبدء. والمبدء وإن كان يمكن اعتباره في نفس المتقدم والمتأخّر كالنقطة التي يبتدئ منها الامتداد الملحوظ بينهما إلاّ أنّ اعتبار المبدء الخارجيّ أقرب إلى فهم المتعلّم. ويمكن تأييد هذا الوجه بما ذكره الشيخ من أنّ المبدء في التقدّم والتأخّر الزمانيّين هو الآن.

بـل يمكن أن يقـال: إنّ أخْذَ المبـدء ـ ولـو كان ذلك هـو النقطة أو الآن أو ما شابههما ـ أيضـاً غير لازم لتعقّل معنى التقـدّم والتأخّـر، وأنّ تعيين جهة الترتّب لا يتوقّف على تعيين المبدء، كما أنّه يكفي لتصوّر معنى الفوق تصوّر أمر يصحّ أن يعتبر بالنسبة إليه تحتاً. وإنّما يلزم تصوّر المبدء لتحقّق إضافة الأقربيّة والأبعديّة.

والحاصل أنّ التقدّم والتأخّر مفهومان متضايفان، ويكفي في تعقّلهما مقايسة أمرين مترتّبين واعتبار جهة الترتّب. وأمّا الأقربيّة والأبعديّة فهما حاصلان بإضافة اُخرى عارضة على تلك الإضافة كالأكبريّة والأصغريّة العارضتين على إضافة الكبر والصغر. على أنّ إضافة التقدّم والتأخّر ليس هي إضافة القرب والبعد بعينها، بل القرب والبعد من المبدء أمارة التقدّم والتأخّر.

ثمّ إنّ الترتّب بين المتقدّم والمتأخّر قد يكون حقيقيّاً وقد يكون بالجعل والاعتبار، فترتّب المعلول على العلّة وترتّب أجزاء الممتدّات بما فيها الزمان ترتّبٌ حقيقيّ، أمّا ترتّب الأشياء الموضوعة بعضها تلوَ بعض فهو غير حقيقيّ ويرجع إلى الترتّب بالعرض. لكن الترتّب الحقيقيّ لا يستلزم كون الجهة أيضاً حقيقيّة، فإنّ ترتّب أجزاء الخطّ والسطح مثلاً حقيقيّ لكن لا يتعيّن جهة الترتّب بالذات، ولهذا يمكن اعتبار كلّ من الجزئين متقدّماً من جهة ومتأخّراً من جهة اُخرى، بخلاف جهة

الترتّب في الزمان، فإنّها متعيّنة بالذات. وحتّى في ما يكون جهة ترتّبه متعيّنة يمكن اعتبار جهة اُخرى على خلاف تلك الجهة، كما إذ أخذنا سلسلة من العلل والمعاليل، وابتدأنا من المعلول الأخير واعتبرناه هو الأوّل واعتبرنا علّته هو الثاني وهكذا.

وأمّا كيفيّة انتقال الذهن إلى أقسام التقدّم فلا ينبغي الارتياب في سبق الحسّيّات ثمّ ما هو أقرب إليها، ولهذا جعل الشيخ معرفة التقدّم المكانيّ والزمانيّ مقدّماً على سائر الاقسام، ثمّ أشار إلى التقدّم بالشرف ثمّ إلى التقدّم بالطبع، وختم الأقسام بالتقدّم بالعليّة. ولا نرى كثير فائدة في البحث عن كيفيّة الانتقال وتعيين السابق واللاحق والمناقشة في ما ذكر في هذا الباب.

وأمّا كيفيّة إطلاق لفظتي التقدّم والتأخّر على أقسامهما فقد نقل صدر المتألّهين عن بعضهم أنّه على سبيل الاشتراك اللفظيّ، وعن صاحب المطارحات القول بالاشتراكالمعنويّ بين التقدّم بالعلّية والتقدّم بالطبع، وجعل التقدّم الزمانيّ من قبيل التقدّم بالطبع، وإرجاع التقدّم المكانيّ إلى الزمانيّ، وجعل التقدّم بالشرف من قبيل المجاز أو الاشتراك في الاسم. وعن أكثر المتأخّرين القول بالاشتراك المعنويّ بين جميع الأقسام، بين من يقول بأنـّه على نعت التواطؤ ومن يقول بأنـّه على نعت التشكيك.(1)

ثمّ إنّه نقل عن بعضهم أنّ الأمر المشترك بين جميع أصناف السبق هو أنّه يوجد للمتقدّم الأمرُ الذي به المتقدّم أولى من المتأخّر. وناقش فيه بأنّ المتقدّم بالزمان لا يمتاز بشيء هو أولى به من المتأخّر ممّا يقع باعتباره التقدّم الزمانيّ.(2)

وقال الشيخ: «إنّ التقدّم والتأخّر وإن كان مقولاً على وجوه كثيرة فإنّها يكاد أن تجتمع على سبيل التشكيك في شيء، وهو أن يكون للمتقدّم، من حيث هو متقدّم،


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌258؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌154؛ و المطارحات: ص‌‌303ـ307؛ والقبسات: ص‌‌61 و 302.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌259؛ والمطارحات: ص‌‌304.

شيء ليس للمتأخّر، ويكون لا شيء للمتأخّر إلاّ وهو موجود للمتقدّم».(1) ومثله كلام تلميذه في التحصيل.(2)

وناقش فيه صدر المتألّهين بأنّ الزمان الموجود للحادث المتأخّر ليس بموجود للمتقدّم ولا كان موجوداً له، كما أنّ المتقدّم كذلك. وبأنـّه يوجد كثير من المعاني للمتأخّر ولا يوجد مثلها للمتقدّم كالإمكان والجوهريّة وغيرهما ممّا يوجد في المبدَعات المتأخّرة عن المبدِع الأوّل. فكان ينبغي أن يقيّد بما فيه التقدّم، وهو مع ذلك منقوض بأجزاء الزمان.(3)

ويمكن الدفاع عنه بأنّ قيد الحيثيّة في كلام الشيخ يفيد التقييد المذكور. وأما الإشكال الأخير فقد أجاب عنه سيّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) بأنّ الأمر المشترك بين المتقدّم والمتأخّر بالزمان هو قوّة ما يلحق بهما والذي يعدّ مبدءاً لهما ويمتاز المتقدّم بقوّة المتأخّر أيضاً. وهو حاصل ما ذكره في المتن.

ويلاحظ عليه أنّ مقايسة المتقدّم والمتأخّر إلى أمر لاحق بهما إنّما يلزم في انتزاع مفهوم الأقرب والأبعد ـ كما أشرنا إليه ـ لا في انتزاع نفس هذين المفهومين.

والحاصل أنّ الأمر المشترك بين جميع أقسام التقدّم هو اعتبار جهة الترتّب بين أمرين مترتّبين.

وجدير بالذكر أنّ استعمال التشكيك في مورد التقدّم ربما يكون باعتبار كون التقدّم من الأمور التي يقع بها التشكيك ـ أعني التشكيك بالأوّليّة ـ وربما يكون باعتبار أنّ إطلاق التقدّم على بعض الأقسام أسبق أو أولى منه على بعض آخر،


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء.

2. راجع: التحصيل: ص‌‌467.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌259؛ والمطارحات: ص‌‌303.

وهذا أيضاً ممّا لا غبار عليه.(1) وربما يكون باعتبار أنّ ما فيه التقدّم في المتقدّم أولى أو أشدّ أو أكثر منه في المتأخّر، كما يظهر من بعض الكلمات، وهو محلّ نظر.

342 ـ قوله «إلى تسعة أقسام»

ذكر الشيخ للتقدّم والتأخّر خمسة أقسام، وتبعه على ذلك غيره.(2) ولمّا كانت العلّية عندهم على قسمين: العلّية في الوجود، والعلّية في التقرّر الماهويّ، وتسمّى بالعلّية في القوام، لهذا أفرز بعضهم القسم الأخير وسمّاه بالتقدّم بالتجوهر، فصارت الأقسام ستّة. وزاد السيّد الداماد التقدّمَ الدهريَّ. لكن لم يتعرّض له صدر المتألّهين وزاد قسمين آخرين: التقدّم بالحقيقة والتقدّم بالحقّ.(3)

وقد نبّه سيّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) على أنّ بعض هذه الأقسام اعتباريّ، لكن لم يعيّن القسم أو الأقسام الاعتباريّة. ولعلّ المتيقّن من التقدّم الاعتباريّ ما يكون بحسب الجعل والاعتبار كالتقدّم الرتبيّ الوضعيّ، لكنّه ليس قسماً برأسه، بل هو بحسب التقسيم المذكور يكون صنفاً من التقدّم الرتبيّ. ويمكن عدّ التقدّم بالتجوهر أيضاً اعتباريّاً لكونه تابعاً للمهيّة الاعتباريّة، وقد نسبه الأستاذ(قدس‌سره) إلي القائلين بأصالة المهيّة. وحصر في المطارحات التقدَّم الحقيقيّ في التقدّم بالعليّة(4) بما يشتمل على التقدّم بالطبع وبرجوع التقدّم الزمانيّ إليه. فتمييز التقدّم الحقيقيّ عن غيره يتطلّب مزيد تدقيق.

فنقول: التقدّم والتأخّر من المعقولات الثانية، ويكونان بأنفسهما اعتباريّين بأحد معاني الاعتبار المذكورة سالفاً تحت الرقم (10) لكن تقسيمهما إلى الحقيقيّ والاعتباريّ يكون من وجهة نظر اُخرى. وقد عرفت أنّ مفهومهما يتحصّل


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌266.

2. راجع: التحصيل: ص‌‌467؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌446؛ والتلويحات: ص‌‌29.

3. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌257؛ وراجع المسألة السادسة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌307.

بملاحظة الترتّب بين أمرين وجَهةِِ الترتّب بينهما، فإذا كان الترتّب حقيقيّاً وجَهةُ الترتّب متعيّنةً بالحقيقة كان التقدّم لايقاً باسم «الحقيقيّ». فلننظر في أيّ الأقسام يكون الأمران حقيقيّين.

ثمّ إنّ التقدّم والتأخّر قد يلاحظان في الوجودات العينيّة، وقد يلاحظان في المفاهيم والمهيّات، فالأولى بالقائل بأصالة الوجود جَعْلُ التقدّم الماهويّ من الأقسام الاعتباريّة وإن فُرضَ له جهةُ ترتّب متعيّنةٌ في نظر العقل، كتقدّم الجنس على النوع أو تقدّم الجنس العالي على المتوسّط والسافل. وعلى هذا فالتقدّم الرتبيّ والتقدّم بالتجوهر يعدّان من الأقسام الاعتباريّة. أمّا الأخير فواضح، وأمّا الأوّل فلأنّ صنفاً منه تابع للوضع والاعتبار، وصنفاً منه يتعلّق بالمفاهيم والماهيّات.

والظاهر أنّ اتّصاف الشريف والدنيّ، أو الأشرف والشريف، أو الدنيّ والأدنى بالتقدّم والتأخّر بالشرف أيضاً يكون اعتباريّاً، والنسبة بينهما بالحقيقة تكون بالكمال والنقص أو بالشدّة والضعف. وتلك المفاهيم وإن كانت مشكّكة ويمكن اعتبار تضايف بينهما لكنّها غير مفهوم التقدّم والتأخّر، فهذان المفهومان إنّما يعتبران في مواردها اعتباراً.

وأمّا التقدّم والتأخّر في كلّ جزئين من أجزاء الزمان فهما من الأوصاف اللازمة لها المنتزعة عن نحو وجوده السيّال. فالترتّب بينها حقيقيّ، وجهة الترتّب متعيّنة بالذات من جانب الأزل إلى جانب الأبد. فهذا التقدّم ممّا يليق باسم «الحقيقيّ» بل لا يبعد كونه أصلاً في هذا المعنى. أمّا الأقدميّة فهي إضافة عارضة لها كإضافة الأكبريّة الحاصلة من مقايسة كبيرين ببعضهما بعد انتزاع مفهوم الكبر عن مقايسة كلّ واحد منهما بالصغير.

ولا يلاحظ في انتزاع مفهوم المتقدّم والمتأخّر من أجزاء الزمان توقّف أحد الجزئين على الآخر، ولا كون أحدهما قوّة للآخر ـ إذا صحّ هذا التعبير في مورد أجزاء

الزمان ـ ولا قربه من مبدء محدود، فلا يصحّ إرجاعه إلى التقدّم بالطبع أو غيره. وإن لوحظ شيء من هذه الاُمور كان ذلك مقتضياً لاعتبار تقدّم آخر. كما إذا اعتبر جهةٌ اُخرى لترتّب أجزاء الزمان على خلاف جهتها الطبعيّة، كأن يفرض الآن الأخير مبدءاً واعتبر الزمان المتّصل به متقدّماً والذي قبله متأخّراً وهكذا بالرجوع قهقرى. وأمّا التقدّم والتأخّر في الزمانيات فهو تابع لما في أجزاء الزمان.

وأمّا التقدّم بالطبع فهو في الواقع نوع من التقدّم بالعلّية بالمعنى العامّ، ومن يحلو له تكثير الأقسام فله أن يجعله قسماً برأسه، كما لأحد أن يفرد العلّة المفيضة الإلهيّة. وكيف كان فالترتّب بين العلّة والمعلول أمر عقليّ وله جهة متعيّنة في نظر العقل، ويعبّر عنه بالفاء المتخلّل بين وجود العلّة ووجود المعلول، كما يقال: تحرّكت اليد فتحرّك المفتاح. فيصحّ عدّ التقدّم بالعلّية أيضاً من الأقسام الحقيقيّة. وأمّا أخذ سلسلة من العلل والمعاليل وجعل المعلول الأخير مبدءاً للسلسلة فهو أمر آخر، والتقدّم الحاصل منه هو من الأقسام الاعتباريّة.

وأمّا التقدّم الدهريّ فإنّه وإن كان في مورد العلّة إلاّ أنّ الملحوظ فيه ليس هو حيثيّة العلّية، ولهذا فلا يجري في مطلق العلل، بل الملحوظ هو تقدّم وعاء على آخر، ومثله التقدّم السرمديّ. فإن ركزنا على عنوان الوعاء أشكل جعله من الأقسام الحقيقيّة. لأنّ إطلاق الوعاء في مورد المجرّدات ولا سيّما الواجب تبارك وتعالى مبنيٌ على المسامحة والتجوّز. وإن لاحظنا مرتبة الوجود أمكن إرجاعه إلى التقدّم العلّيّ أو الرتبيّ، ولعلّ هذا هو السرّ في عدم ذكره في كلام صدر المتألّهين.

وأمّا التقدّم بالحقيقة فهو يتصوّر بعد اعتبار تعميم الوجود لما هو بالعرض والمجاز، ومثل هذا التقدّم لا يصحّ عدُّه تقدُّماً حقيقيّاً.

وأمّا التقدّم بالحقّ فهو نوع خاصّ من التقدّم بالعلّيّة بمعناها العامّ. واعتبار الفلاسفة وجود مطلق المعلول كأمر مستقلّ لا يوجب عدَّ تقدُّم الوجود المستقل

على الرابط قسماً برأسه، فإنّ ذلك يرجع إلى خطأهم في تفسير العلّية. كيف وقد أثبت صدر المتألّهين نفسُه الوجودَ الرابط من طريق تحليل حقيقة العلّية. وقد أشرنا آنفاً إلى صحّة اعتبار تقدّم كلّ نحو من العلّة تقدُّماً على حدة، من غير ما يوجب ذلك.

نعم، بناءاً على اختصاص حقيقة الوجود بالواجب تبارك وتعالى ونفيها عن المخلوقات ـ كما هو المأثور عن الصوفيّة ـ لم يندرج التقدّم بالحقّ في التقدّم بالعليّة، لكنّه يرجع إلى التقدّم بالحقيقة، فافهم.

والحاصل أنّ التقدّم الحقيقيَّ على قسمين: التقدّم الزمانيّ، والتقدّم بالعلّية على أنحائه.

الفصل الثاني

343 ـ قوله «في ملاك السبق واللحوق»

إنّ المتقدّم والمتأخّر يجمعهما امتداد أو ما هو بمنزلته من المعاني العقليّة يصحّح الترتّب بينهما، ويمكن تمثيله كخطّ عموديّ، وهو الذي يسمّونه بـ «ما فيه التقدّم» ويختصّ كلٌ منهما بموضعه الخاصّ من ذلك الأمر الجامع، ويسمّى الوصف الخاصّ بالمتقدّم من جهة تقُّدمه بـ «ما به التقدّم». وقد عرفت أنّ ذلك لا يعني تشكيكاً بين المتقدّم والمتأخّر بالأولويّة أو الأشدّية أو الأكمليّة، كما أنّ الجزء المتقدّم من الزمان ليس أولى بالزمانيّة ولا أشدّ ولا أكمل من الجزء المتأخّر، فما يُرى من الأولويّة واُختيها في بعض أقسام التقدّم ليس هي ما به التقدّم، إلاّ أن يعتبر فيه تقدّم اعتباريّ آخر، فتفطّن.

ثمّ إنّ الأمر الجامع في التقدّم المكانيّ هو الامتداد المكانيّ، وفي التقدّم الزماني

هو الامتداد الزمانيّ، وفي التقدّم بالطبع هو الوجود بصرف النظر عن وجوبه، وفي التقدّم العلّيّ هو وجوب الوجود، وفي التقدّم الدهريّ هو وعاء الوجود، وفي التقدّم بالحقيقة هو مطلق الثبوت، وفي التقدّم بالحقّ هو حقيقة الوجود من حيث الاستقلال والربط. وأمّا التقدّم بالشرف فيختلف بحسب الموارد، ففي مثال الشجاع والجبان يكون الأمر الجامع هو الوصف الحاصل للنفس من قوّتها الغضبيّة، وفي مثال العالم والجاهل هو الوصف الحاصل من القوّة العقليّة، وهكذا.

وقد جعل الاُستاذ(قدس‌سره) ملاك التقدّم الزمانيّ اشتمال المتقدّم والمتأخّر على قوّة الأجزاء اللاحقة، وجعَل ما به التقدّم أكثريّةَ تلك القوى في المتقدّم بالنسبة إلى المتأخّر، وكأنّه عدل ههنا إلى أنّ ما به التقدّم هو قوّة المتأخّر. لكن قد عرفت عدم الحاجة إلى اعتبار القوّة في انتزاع مفهوم التقدّم والتأخّر أصلاً. على أنّ استعمال القوّة في مورد أجزاء الزمان لا يعني إلاّ تقدّم بعضها على بعض، وهو غير المعنى المصطلح الذي ينسب إلى المادّة، وإلاّ لاحتاج الخروج عن كلّ جزء إلى ما يليه إلى حركة وزمان، فتبصّر.

الفصل الثالث

344 ـ قوله «في المعيّة»

المعيّة أو التقارن إضافة متشابهة الأطراف بين أمرين، وتُنتزع من وقوعهما في عَرْض واحد، فيصحّ اعتبار الأمر المشترك بينهما كخطّ اُفقيّ على خلاف الأمر المشترك بين المتقدّم والمتأخّر، وتختلف هذه الإضافة عن إضافة التقدّم والتأخّر في أنّها متشابهة الأطراف فيتّصف كلٌّ من المتضايفين بمثل ما يتّصف به الآخر، بخلاف تلك الإضافة حيث إنّها متخالفة الأطراف، ومقتضى ذلك أن يتّصف كل

منهما بمقابل الآخر، وهذا هو السرّ في اختصاص المتقدّم بما به التقدّم لا أولويّته بالأمر المشترك أو ما يشابهها.

وعلى ضوء هذا التحليل يظهر أنّ كلّاً من الإضافتين معنىً وجوديٌّ يعتبر بين أمرين وجوديَّين، وإن صحّ اعتبار أمر عدميّ فيهما فلا يختصّ ذلك بإحداهما، فليس شيء منهما أولى بالعدميّة من الاُخرى، حتّى يعتبر بينهما تقابل السلب والإيجاب، أو تقابل العدم والملكة. فإذا وجد بينهما تقابل بالذات كان من قبيل التقابل بين المفاهيم الوجوديّة. فإن عُمّم التضادّ إلى الإضافات أمكن جعله من قبيل التضادّ، وإلاّ كان التقابل بينهما بالعرض لكون كلّ واحدة من الإضافتين مصداقاً لسلب الاُخرى. هذا، مضافاً إلى ما مرّ تحت الرقم (224) أنّ التقابل بالذات إنّما يكون بين الوجود والعدم.

الفصل الرابع

345 ـ قوله «في معنى القدم والحدوث»

شروع في القسم الثاني من مباحث هذه المرحلة. وابتدأ(قدس‌سره) ببيان مفهوم القدم والحدوث، فذكر أنّ للقدم معنىً عرفيّاً، هو أطوليّة امتداد أحد الوجودين من جانب الأزل، ويقابله الحدوث، ولازمه كون وجود الحادث متأخّراً عن القديم ومسبوقاً بعدمه المقارن لجزء من وجود القديم.(1)

وأمّا المعنى الفلسفيّ لهما فيحصل بتصرّفين في المعنى العرفيّ: أحدهما تبديل المفهوم النسبيّ إلى النفسيّ بأن يؤخذ الحادث بمعنى «المسبوق بالعدم» والقديم بمعنى «غير المسبوق بالعدم». وثانيهما التعميم إلى الذاتيّ والدهريّ وما بالحقّ أيضاً. وقد أشرنا تحت الرقم (342) إلى رجوع الأخيرين إلى الذاتيّ بمعنى العلّيّ.


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌244.

وقد ظهر سرّ أولويّة تقديم مبحث التقدّم والتأخّر على مبحث القدم والحدوث، وهو أخذ معنى السبق والتقدّم في مفهومهما.

الفصل الخامس

346 ـ قوله «في القدم والحدوث الزمانيّين»

للحدوث الزمانيّ تعريف مشهور هو كون وجود الشيء مسبوقاً بعدم زمانيّ، مع تفسير العدم الزمانيّ بعدم ذلك الشيء مقارناً لجزء من الزمان. وهذا التعريف إنّما ينطبق على الحوادث الزمانيّة لا على نفس الزمان كامتداد واحد ولا على أجزائه، لأنّه لا يعقل للزمان ظرف زمانيّ ينطبق وجود كلّه أو بعضه على شيء من ذلك الظرف.

وللقدم الزمانىّ تعريف هو كون وجود الشيء الزمانيّ غير مسبوق بعدم زمانيّ، ولا مصداق له سوى الأفلاك على القول بوجودها وأزليّتها. فالزمان لا يتّصف نفسه بالقدم الزمانيّ بهذا المعنى أيضاً لعدم شأنيّته لذلك.

لكن يمكن تعريف الحدوث الزمانيّ بوجه آخر، وهو وجود المبدء الزمانيّ للشيء، وكذا يمكن تعريف القديم الزمانيّ بما لا أوّل زمانيّاً لوجوده.(1) فبناءاً على هذا التعريف يتّصف كلّ جزء من أجزاء الزمان بالحدوث الزمانيّ، لأنّه مبدوّ بآن هو أوّل زمانيّ له وإن لم يكن الآن جزءاً من الزمان، وكذا يتّصف به كلّ الزمان بناءاً على القول بمحدوديّته من جهة البدء، وأمّا بناءاً على القول بعدم محدوديّته فيتّصف بالقدم الزمانيّ بهذا المعنى.

وكذا يمكن أخذ النفي في تعريف القديم على نعت السلب التحصيليّ، فتتّصف به المجرّدات أيضاً، ويكون معنى قدمها زماناً أنّه لا يتصوّر أيّ زمان إلاّ وتكون هي


1. راجع: التحصيل: ص‌‌463؛ وراجع: القبسات: ص‌‌170ـ172.

موجودة معه، وإن لم تكن موجودة فيه. ولعلّه إلى هذا المعنى أشار شيخ الإشراق حيث قال: «وعلى الاصطلاحات كلّها لا يخرج الشيء من القدم والحدوث».(1)

347 ـ قوله «وكذلك الكلّ»

إذا فرض الزمان غير متناهٍ من جهة البدء فلا يتصوّر مسبوقيّته بجزء زمانيّ آخر، كما لا يتصوّر له مبدء آنيّ، فقياس الكلّ على الأجزاء ههنا في غير محلّه، إلاّ على القول بتناهيه، حيث يتصوّر له حينئذٍ مبدء آنيّ.

الفصل السادس

348 ـ قوله «في الحدوث والقدم الذاتيّين»

المشهور بين الحكماء أنّ الحدوث على قسمين: زمانيّ، وذاتيّ.(2) أمّا الزمانيّ فقد مرّ الكلام فيه، وأمّا الذاتيّ فهو الحدوث الذي ينسب إلى ذات الشيء بصرف النظر عن الزمان. وبيّنوا ذلك ببيانين: أحدهما أنّ كلّ ممكن فهو من حيث مهيّته لا يستحقّ الوجود وإنما يستحق الوجود بالنظر إلي علّته، فالعقل يعتبر له مرتبة متّصفة بالعدم سابقة على مرتبة وجوده الحاصل من الغير، فيصحّ أن يقال إنّ وجوده مسبوق بالعدم الثابت لذاته ومهيّته. وهذا العدم يجتمع مع الوجود بخلاف العدم الزمانيّ، لأنّ مصبّه هو مرتبة الذات ولا يتخلّى الموجود عنها أبداً.(3)


1. راجع: المطارحات: ص‌‌325؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌246.

2. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌134؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌246 و 271؛ والتحصيل: ص‌‌468469؛ وراجع: القبسات: ص‌‌19ـ22.

3. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌159ـ160.

وحيث كان هذا البيان مشعراً بأنّ تلك المرتبة المتقدّمة هي مرتبة ذات المهيّة من حيث هي، وتلك المرتبة لا تقتضي وجوداً ولا عدماً، فكما لا يصحّ نسبة استحقاق الوجود إليها كذلك لا يصحّ نسبة استحقاق العدم إليها أيضاً، لهذا عدل بعضهم عن التعريف المشهور للحدوث، وهو المسبوقيّة بالعدم، إلى المسبوقيّة بالغير، وبيَّن للحدوث الذاتيّ ثاني البيانين، وهو أنّ كلّ ممكن فهو مسبوق بوجود علّته، لأنّ وجوده مستفاد منها، فيصحّ أن يقال إنّه حادث بمعنى مسبوقيّته بالعلّة.(1) وتعبير «السبق العلّي» كما مرّ في كلام الاُستاذ(قدس‌سره) أوفق بهذا البيان.

وكيف كان فالحدوث الذاتيّ مساوق للإمكان الذاتيّ، كما أنّ القدم الذاتيّ مساوق للوجوب الذاتيّ. وكما أنّ الإمكان الذاتيّ أوفق بالقول بأصالة المهيّة كذلك الحدوث الذاتيّ. ثمّ إنّ السيّد الداماد(قدس‌سره) استظهر من بعض كلمات الشيخ تثليث أقسام الحدوث، وجعل القسم الثالث الحدوث الدهريّ.(2)

الفصل السابع

349 ـ قوله «في الحدوث والقدم بالحقّ»

هذا الاسم مأخوذ من التقدّم بالحقّ الذي زاده صدر المتألّهين على الأقسام المشهورة للتقدّم، وقد سمّاه نفسه بالفقر الذاتيّ حيث قال بعد ذكر البيانين للحدوث الذاتيّ: «لكن هذان الوجهان لا يجريان في نفس الوجودات المجعولة التي هي بذاتها آثار الواجب تعالى، وقد أشرنا إلى أنّ لها ضرباً آخر من التأخّر، فلها ضرب آخر من الحدوث، وهو الفقر الذاتيّ، أعني كون الشيء متعلّق الذات


1. راجع: المسألة السادسة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق.

2. راجع: القبسات: ص‌‌35.

بجاعله. وبعبارة اُخرى: كون الموجود بما هو موجود متقوّماً بغيره. والمهيّة لا تعلّق لها من حيث هي هي بجاعل، وليست هي أيضاً بما هي هي موجودةً، فلا حدوث لها بهذا المعنى ولا قِدَم، ولا قديم بهذا المعنى أيضاً إلاّ الواجب، ولا بأس بأن يصطلح في القديم والحادث على هذا المعنى وإن لم يشتهر من القوم».(1)

فالفرق بين الحدوث بالحقّ والحدوث الذاتيّ بالمعنى المشهور هو الفرق بين الإمكان الفقريّ الجاري في الوجود والإمكان الذاتيّ الجاري في المهيّة. وهذه المناسبة بين الحدوثين هي الموجبة لتقديم الحدوث بالحقّ على الحدوث الدهريّ.

الفصل الثامن

350 ـ قوله «في الحدوث والقدم الدهريّين»

إنّ السيّد الداماد بعد ما ذكر سبعة أقسام للتقدّم والتأخّر بزيادة التقدّم الدهريّ والسرمديّ على الأقسام الستّة المشهورة، بيّن أنّ قسمين منها يتميّزان بكون القبليّة فيهما بحسب الانفكاك في ظرف الوجود لا بحسب خصوص المرتبة العقليّة، وهما التقدّم الزمانيّ، والتقدّم السرمديّ.(2) ثمّ تعرّض لوجوه الاختلاف بينهما وهي خمسة أوجه.(3)

فالخاصّة التي يتميّز بها الحادث الدهريّ عن الحادث الذاتيّ هو انفكاك وعائه عن وعاء القديم الدهريّ في متن الأعيان بخلاف الحادث الذاتيّ الذي يكون تأخُّره في ظرف التحليل الذهنيّ فقط. لكن بالنظر إلى أنّ استعمال الوعاء في مورد


1. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌249ـ250.

2. راجع: القبسات: ص‌‌62 و 88.

3. نفس المصدر: ص‌‌88ـ90.

المجرّدات ولا سيّما في مورد الواجب تبارك وتعالى لا يخلو عن تجوّز، يمكن إرجاع التقدّم الدهريّ والسرمديّ إلى تقدّم مراتب الوجود العالية على المرتبة الدانية المادّية في متن الواقع. ولذا فسّر الاُستاذ(قدس‌سره) الحدوثَ الدهريّ بمسبوقيّة المعلول بعدمه المتقرّر في مرتبة علّتها.

ثمّ إنّه ذكر أنّ القبليّة والبعديّة الزمانيّتين ليستا متقابلتين، لأنّ من شرط التقابل وحدة الزمان، ولا يتصوّر ذلك فيهما، فليس بين العدم والوجود الزمانيّين لشيء واحد تقابل، بخلاف القبليّة والبعديّة الدهريّة، حيث لا اختلاف زمانيّاً بينهما.(1) وهذا هو المراد بما حكى عنه في المتن من أنّ القبليّة والبعديّة في الحدوث الدهريّ غير مجامعتان.


1. نفس المصدر: ص‌‌17.

آدرس: قم - بلوار محمدامين(ص) - بلوار جمهوری اسلامی - مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمينی(ره) پست الكترونيك: info@mesbahyazdi.org