قال علي عليه‌السلام : إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا؛ امير مومنان عليه‌السلام مي‌فرمايند: همانا براي شما بهايي جز بهشت نيست، پس به کمتر از آن نفروشيد. (نهج‌البلاغه، حکمت456)

 

المرحلة الثامنة

الفصل الأوّل

231 ـ قوله «فی إثبات العلّیّة والمعلولیّة»

ینبغی تقدیم اُمور:

الأمر الأوّل فی تعریف العلّة والمعلول. قال الشیخ فی رسالة الحدود: «إن العلّة هی كلُّ ذات یلزم منه أن یكون وجود ذات أخرى إنّما هو بالفعل من وجود هذا بالفعل، ووجود هذا بالفعل لیس من وجود ذلك بالفعل».(1) وقال فی التحصیل: «كلُّ وجود شیء یكون معلوماً من وجود آخر، ووجود ذلك الآخر لا یكون معلوماً من وجود الأوّل، فإنّ الأوّل نسمّیه علّة، والثانی معلولاً»(2) ولا یخلو عن غرابة ولعلّ فیه تصحیفاً.

وقال المحقّق الطوسیّ فی التجرید: «كلُّ شیء یصدر عنه أمر إمّا بالاستقلال أو بالانضمام فإنّه علّة لذلك الأمر، والأمر معلول له» ولعلّ المراد بلفظة الصدور فی التعریف كما ذكر فی الشوارق(3) هو ما یعمّ صدور الوجود بالتأثیر كما فی الفاعل، أو بالبعث كما فی العلّة الغائیّة، وصدور التقوّم كما فی العلّة المادّیة والصوریّة.


1. فی النسخة المطبوعة، «العلّة كل ذات، وجود ذات آخر بالفعل من وجود هذا بالفعل، ووجود هذا بالفعل لیس من وجود ذلك بالفعل»، انظر رسائل ابن سینا، ص‌‌117.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌519.

3. راجع: المسألة الاُولى من الفصل الثالث من الشوارق.

ویمكن أن یكون التعریف مختصاً بعلّة الوجود، وهی اللائقه باسم العلّة وبالبحث عنها فی مباحث الوجود.(1)

وقال المحقّق الشریف: «الأولى أن یقال: العلّة ما یَحتاج إلیه أمر، سواء كان احتیاجه إلیه بحسب الوجود دون المهیّة كالعلل الخارجیّة، أو بحسبهما معاً كالعلل الداخلیّة».

وقال فی حكمة الإشراق: «ونعنی بالعلّة ما یجب بوجوده وجود شیء آخر بتّةً دون تصوُّر تأخُّرٍ».(2) ونقل فی المطارحات عن بعض أهل العلم «انّ العلّة هی ما یحصل منه وجود شیء آخر ولم یحصل وجوده من ذلك الآخر» ثمّ اعترض علیه بأنّ عدم حصول وجود العلّة من المعلول هو لازم حصول وجوده منها، ولا دخل له فی معنى العلّة، وقال: «یكفی أن یقال: إنّ العلّة على أحد مفهومیها هی ما یجب به وجود شیء آخر، أو ما یحصل به وجود شیء آخر ـ إلى أن قال ـ والعلّة قد یقال ویُعنى بها ما یتوقّف وجود الشیء علیه، وهذا إمّا أن یكون كلَّ ما یجب به وجود الشیء أو جزءَ ما یجب به وجود الشیء، فإنّ المعلول یتوقّف على جزء العلّة وعلى كلّها»(3) وكلامه هذا فی كتابیه لا یستقیم إلاّ على أصالة الوجود، فافهم.

وقال فی الأسفار: «العلّة لها مفهومان: «أحدهما هو الشیء الذی یحصل من وجوده وجود شیء آخر، ومن عدمه عدم شیء آخر؛ وثانیهما هو ما یتوقّف علیه وجود الشیء فیمتنع بعدمه ولا یجب بوجوده».(4)

والذی بنى علیه كلامه أوّلاً فی المتن هو المعنى الثانی الأعمّ حیث قال: «فهذا الوجود المتوقّف علیه نسمّیه علّة، والشیء الذی یتوقّف على العلّة معلولاً له» وإن كان كلامه فی آخر الفصل مختصّاً بالعلّة المفیضة.


1. راجع: القبسات: ص‌‌53.

2. راجع: حكمة الإشراق: ص‌‌62.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌376 و 377.

4. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌127.

وأكثر التعاریف دوریّة لاشتمالها على باء السببیّة أو ما یفید معناها، والأولى أن یقال: «العلّة أمر یحتاج إلیه ـ أو یتوقَّف علیه ـ أمر آخر بما أنّه محتاج إلیه ومتوقَّف علیه، وذلك الأمر المحتاج أو المتوقِّف هو المعلول بما أنّه محتاج ومتوقِّف». واعتبار قید الحیثیّة هو لأجل التنبیه على أنّ النار مثلاً لیست علّة من جمیع الجهات، بل علّیتها إنّما هی من حیث توقّف الحرارة الناشیءة منها علیها، فلا ینافی كونها معلولة لأمر آخر، كما أنّه تصدق علیها مفاهیم اُخرى من حیث ذاتها أو من حیثیّات اُخرى.

الأمر الثانی فی كیفیّة تعرّف الذهن على هذین المفهومین. لا شكَّ أنّ هذین المفهومین لیسا من المفاهیم الماهویّة، بل هما من المعقولات الثانیة الفلسفیّة التی یكون عروضها فی الذهن، واتّصافها فی الخارج. فلیس فی الخارج موجود یكون ماهیتهُ العلّیة أو المعلولیّة، كما لا یكون لهما فرد حسّیّ أو خیالیٌّ.

وربما یُظنّ أنّ المعقولات الثانیة منتزعة من المهیّات، ولهذا تسمّى بالثانیة، لكن فی التسمیّة ووجهها نظر، وإنّما نسمّیها نحن بالثانیة حفظاً لاصطلاح القوم، ونقترح تسمیتها بالمفاهیم الفلسفیّة. كما أنّ انتزاعها من المهیّات ممنوع، كیف وجلّها لولا كلّها تحكی عن أنحاء الوجودات وروابطها، والمهیّات لیست فی ذواتها إلاّ أنفسها، ولیس لها حیثیّة تصلح لانتزاع هذه المفاهیم، حتّى أنّ الإمكان إنّما ینتزع من نسبة الوجود إلى المهیّة، وفی الحقیقة یكون وصفاً للمهیّة بحال متعلّقها كما أشرنا إلیه سابقاً.

وكیف كان فهذان المفهومان المتضایفان إنّما یحكیان عن موجودین یكون أحدهما محتاجاً إلى الإخر، فالنفس إنّما تستعدّ لإدراكهما إذا قایستْ موجودین ببعضهما ووجدتْ أحدَهما محتاجاً إلى الآخر فی وجوده، لكن من أین یحصل لها هذا الاستعداد؟

یمكن أن یقال: إنّ هذا الاستعداد یحصل بتجربة اُمور لا تحصل بدون اُمور اُخرى، فعند ذلك ینتزع مفهوم الحاجة والتوقّف الذی به قوام مفهوم العلیّة والمعلولیّة.

لكن لقائل أن یرجع القول ویسأل: بماذا علمت النفس أنّ إدراكاتها التی هی صور قائمة بها تكون حاكیة عن اُمور خارجة عنها حتّى تعلم بوجود الاُمور الخارجیّة وتُجری علیها تجاربها؟ وبماذا علمتْ أنّ حصول شیء عند حصول شیء آخر أو انعدامه عند انتفاء ذلك الشیء لیس أمراً اتفاقیّاً؟ وأنَّ هذا یكشف عن ارتباط وجودیّ بینهما؟ وهل كلّ ذلك إلاّ لأجل علمها المسبّق بالرابطة العلّیة بین الصور الذهنیّة والاُمور العینیّة وكذا بین الاُمور العینیّة أنفسها؟ وإلاّ فمجرّد التعاقب أو التقارن لا یكشف عن العلّیة والمعلولیّة بین شیئین متعاقبین أو متزامنین ولو تكرّر تعاقبهما وتزامنهما مراراً، كما أنّ تعاقب اللیل والنهار وتقارن معلولی علّة واحدة كتقارن حدوث الحرارة والنور فی المصباح الكهربائیّ لا یكشف عن علّیة أحدهما للآخر، مع أنّه یتكرّر دائماً.

فالحقّ أنّ النفس تجد هذه الرابطة أوّلاً بین نفسها وبین أفعالها كالإرادة مثلاً بالعلم الحضوریّ حیث تصدر الإرادة عن النفس وتقوم بها وتتوقّف علیها، وبالمقایسة بینهما تستعدّ لإدراك مفهومی العلّة والمعلول على وجه خاصّ. ومن الواضح أنّه لا یلزم لانتزاعهما سبق إدراك مفهوم النفس ومفهوم الإرادة ولا أیّ مفهوم آخَرَ، وإنّما یكفی العلم الحضوریّ بهما والالتفات إلیهما من حیث قیام أحدهما بالآخر وصدوره عنه، وأخذ ذلك بعین الاعتبار.

ثمّ إنّ النفس تجد نظیر هذه الرابطة بین الاُمور النفسانیّة التی تعلم بها حضوراً، فتجد توقّف بعضها على بعض وإن لم یكن على نعت الصدور والقیام، فتستعدّ لإدراك مفهومی العلّة والمعلول العامّین، أی مطلق المتوقّف والمتوقَّف علیه.

وبهذا یظهر السرّ فی بداهة المفاهیم كمفاهیم تصوّریّة، وهو أنّها تؤخذ من المعلومات الحضوریّة بلا واسطة واكتساب.

الأمر الثالث فی ضرورة احتیاج المعلول إلى العلّة. إنّ احتیاج المعلول إلى

العلّة كقضیّة حقیقیّة من البدیهیّات الأوّلیة التی لا یحتاج التصدیق بها إلى مزید من تصوّر الموضوع والمحمول.

والسرّ فی بداهتها أنّها من القضایا التحلیلیّة التی ینحلّ مفهوم موضوعها إلى مفهوم المحمول، لأن مفهوم «المعلول» یتضمّن مفهوم «المحتاج إلى العلّة» فإنّ تعریف المعلول كما ذكرنا فی الأمر الأوّل هو الموجود المحتاج إلى موجود آخرَ یسمَّى بالعلّة، فحمل «المحتاج إلى العلّة» على «المعلول» حمل ذاتیّ من قبیل ثبوت الشیء لنفسه.

لكنّ القضایا الحقیقیّة حیث إنّها فی قوّة القضایا الشرطیّة ـ كما أشرنا إلیه سابقا(1) ـ لا تدلّ على تحقّق مصداقها فی الخارج، فلا تدلّ هذه القضیّة على وجود اُمور معلولة فی الخارج حتّى یُحكم باحتیاجها إلى العلّة حكماً ضروریّاً. فلا یصحّ الاستدلال بها لإثبات احتیاج موجود خارجیّ إلى العلّة إلاّ بعد إثبات كونه معلولاً. فلابدّ أوّلاً من معرفة خواصّ المعلولیّة حتّى تعرف مصادیق المعلول العینیّة بتطبیق تلك الخواصّ علیها، أو معرفة خواصّ العلّة المطلقة أعنی الواجب بالذات حتّى تعرف المعالیل بفقدانها، وهذا هو شأن الفلسفة الإلهیّة. وأمّا معرفة العلاقة الخاصّة بین المعلولات وعللها الخاصّة القریبة فمن شأن سائر العلوم باستعانة بالاُصول الفلسفیّة.

الأمر الرابع فی بداهة وجود العلّة والمعلول فی الخارج. قد عرفت فی الأمر الثانی أنّ النفس تجد علاقة العلّیة بین نفسها وبین أفعالها المباشرة بالعلم الحضوریّ، فتعلم بتحقّق العلّة والمعلول فی دار الوجود على نعت الموجبة الجزئیّة، ولا تحتاج فی معرفة ذلك إلى برهان. وأمّا فی ماوراء نطاق وجودها فإنّما تتعرّف علیه بنوع من البرهنة وإن كانت غیر نابهة لها، وهذه المعرفة قد تسمّى «فطریّة» كما یقال إنّ العلم بوجود الحقائق الخارجیّة فطریّ، وإن كانت هذه اللفظة مشتركة بین معان ومكتنفة بهالة من الإبهام.


1. راجع: التعلیقة: الرقم (20).

الأمر الخامس فی كیفیّة معرفة علاقة العلّیة بین الموجودات. أمّا علاقة العلّیة بین الموجودات المادّیة فتكشف بتوقّف وجود بعضها على بعض، وذلك بالتجربة والاختبار بالوضع والرفع. وهو ما تستهدفه العلوم التجریبیّة، وإن كان تعیین العلّة التامّة بعینها تعینیاً یقینیّاً فی غایة الصعوبة، لبقاء احتمال أن یكون هناك أمرٌ غیرُ محسوسٍ مؤثّرٌ فی حصول المعلول كما أنّ التجربة لا تفی بإثبات العلّة المنحصرة.

وأمّا معلولیّة الأشیاء لعللها المفیضة ولذات الواجب تبارك وتعالى فالمعروف عندهم طریقان لإثباتها: أحدهما إثبات الإمكان لها من طریق تلازم المهیّة والإمكان حتّى تشملها البراهین التی تثبت أنّ كلَّ ممكن یحتاج إلى الواجب، ثمّ إثبات الوسائط بأدلّتها الخاصّة. وثانیهما تعریف صفات الواجب تعالى من البساطة والصرافة واللاتناهی ونحوها ومعرفة المعلولیّة بفقدان تلك الصفات.

ولصدر المتألّهین طریقة اُخرى تبتنی على اُصوله من أصالة الوجود وتشكّكه وكون المعلول رابطاً بالنسبة إلى علّته غیرَ مستقّلٍ عنها واستلزامِ ذلك كونه مرتبةً ضعیفةً من وجود علّته. فبالنظر إلى هذه الاُصول یستنتج أنّ حقیقة الوجود لا تقتضی نقصاً ومعنى عدمیّاً مطلقاً، فإذا كان هناك موجود ضعیف وناقص بوجهٍ من الوجوه كان ذلك أمارة على معلولیّته. فیُعرف المعلول بنقص الوجود وشوبِهَ بالأعدام.

ویمكن تبیین ذلك بوجهین آخرین: أحدهما أنّا إذا لا حظنا علّة ومعلولاً، ولا محالة یكونان متسانخین، لم‌نجد تمایزاً بینهما یوجب اختصاص أحدهما بالعلّیة والآخر بالمعلولیّة إلاّ شدّة الوجود فی الأوّل وضعفه فی الثانی. فنعلم أنّ ملاك المعلولیّة هو ضعف الوجود، فكلّ موجود ضعیف هو معلول لما هو أشدُّ منه (بالتشكیك الخاصّیّ) إلى أن ینتهی إلى موجود لا یمكن فرض أشدَّ منه، وهو الواجب تعالى.

وثانیهما أن العلّیة والمعلولیّة هما من الخواصّ الذاتیّة للموجودات، فما یكون

علّة لشیء لا یمكن جعله معلولاً وبالعكس.(1) فإمكان المعلولیّة فی شیء یساوق وجوبها، وإلاّ لم تكن ذاتیّة له. وكلّما كان فی الموجود ضعف ونقص أمكن كونه معلولاً لموجود أقوى منه فوجب ذلك إلى أن ینتهی إلى الكامل المطلق.

وبالجملة فالمسبوقیّة والملحوقیّة بالعدم أی الحدوث والزوال، والاشتباك بالعدم أی التدرّج والحركة، وكلّ محدودیّة فی الوجود أمارة على المعلولیّة.

إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّ عنوان الفصل یدلّ على أنّه معقود لبیان أمرین: أحدهما إثبات العلیّة والمعلولیّة فی الخارج، وثانیهما إثبات أنّ العلیّة رابطة وجودیّة ولیست من الاُمور الراجعة إلى المهیّات. والأمر الأوّل ینحلّ إلى أمرین: أحدهما أنّ فی دار الوجود علّةً ومعلولاً فی الجملة، وثانیهما أنّ كلّ ممكن فهو معلول، كما صرّح بهما فی بیان النتائج الحاصلة من البحث. وقد ركز الاُستاذ ـ قدّس الله سرّه ـ على الأمر الأخیر واستنتج منه ما قبله، وإنّما یتأتَّى ذلك إذا كان وجود الممكن فی الخارج ثابتاً، لكن إثباته لا یستغنی عن مبدء العلّیة، كما مرّ نظیره فی إثبات وجود المعلول فی الخارج فی الأمر الثالث.

ثم إنّه ذكر فی ما مضى(2) أنّ احتیاجالممكن إلى العلّة من الضروریّات الأوّلیة، وعلیه فیكون بیانه ههنا تنبیهیّاً، لكن لا‌یساعد علیه لفظةُ «الإثبات» فی عنوان الفصل.

وكیف كان فهذا البیان مبنیٌ على معرفة حال المهیّة وأنّها فی ذاتها متساویة النسبة إلى الوجود والعدم، فلابدّ لرجحان أحدهما من أمر وراء ذات المهیّة وهو العلّة. ویلاحظ علیه أنّ مثل هذا البیان یناسب القول بأصالة المهیّة، وأمّا القائل باعتباریّتها فالألیق به أن یركّز على الوجود. وجدیر بالذكر أن الترجّح من غیر


1. قال الشیخ فی التعلیقات، ص179، الوجود إمّا أن یكون محتاجاً إلى الغیر، فتكون حاجته إلى الغیر مقوّمة له، وإمّا أن یكون مستغنیاً عنه، فیكون ذلك مقوّماً له. ولایصحّ أن یوجد الوجود المحتاج غیر محتاج، كما أنّه لا یصحّ أن یوجد الوجود المستغنی محتاجاً، وإلاّ قد تغیّر وتبدّل حقیقتهما.

2. راجع: الفصل السادس من المرحلة الرابعة.

مرجّح لیس إلاّ حصول المعلول بلا علّة، فإنّ المرجّح لیس إلاّ علّة الرجحان، وهو الأصل البدیهیّ الذی أشرنا إلیه فی الأمر الثالث.

والحاصل من هذا البیان أنّه كلّما تحقّق فی الخارج موجود ممكن ذو مهیّة متساویة النسبة إلى الوجود والعدم كان محتاجاً إلى العلّة، وكان تحقّقه كاشفاً عن تحقّق علّته. لكن إثبات تحقّق مثل هذا الموجود یحتاج إلى بیان آخر، كما أنّ تعیین مصادیقه كذلك.

232 ـ قوله «ثمّ إنّ مجعول العلّة...»

شروع فی بیان ثانی الأمرین اللذینِ أشار إلیهما فی عنوان الفصل، وهو كون العلّیة فی الوجود. فإنّ العلّیة لیست مجرّد إضافة ذهنیّة بین مفهومین أو مهیَّتین بل هی عبارة عن علاقة خارجیّة بین وجودین، فالوجود الذی یكون مفتقراً فی ذاته إذا قویس إلى الوجود المفتقَر إلیه انتزع مفهوم المعلول للأوّل، ومفهوم العلّة للثانی. وهذه المقایسة والإضافة وإن كانت لازمة فی انتزاع المفهومین لكن لیس معناها أنّ حقیقة العلّیة لیست إلاّ لحاظاً ذهنیّاً وإضافة اعتباریّة كما ربما یتوهّم بعض الغربیّین، بل اللازم أیضاً أن یكون نفس الوجود الخارجیّ ذا حقیقة تعلّقیّة. وبعبارة اُخرى: فإنّ عروض المفهومین وإن كان ذهنیّاً إلاّ أنّ الاتّصاف بهما خارجیّ على ما هو شأن جمیع المفاهیم الفلسفیّة.

وقد ابتدأ الاُستاذ(قدس‌سره) بیان مسألة الجعل، وهی التی قدّمها فی الأسفار(1) على مباحث العلّة والمعلول، وبیّن أنّ أثر العلّة إنّما هو وجود المعلول لا مهیّته ولا اتّصاف المهیّة بالوجود، وهو ممّا یؤكّد أصالة الوجود كما أشرنا إلیه فی بیان الصلة بین مسألة


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌396423؛ وج‌2: ص‌‌380ـ382؛ و راجع: المسألة الخامسة والثلاثین من الفصل الأوّل من الشوارق.

أصالة الوجود وسائر المسائل تحت الرقم (10). ثم عاد أخیراً إلى بیان أنّه لا استقلال للمعلول دون العلّة، فالمعلول لیس وجوداً یطرأ علیه إضافة إلى وجود آخر، بل هو نفس التعلّق والربط بالعلّة المفیدة. ثمّ أشار إلى ان الوجود الرابط لا مهیّة له بما أنّه رابط إلاّ أن یلتفت إلیه العقل ویلاحظه استقلالاً، وقد مرّ مایتعلق بهذا الأمر فی الفصلین الأوّلین من المرحلة الثانیة مع ما یلاحظ علیه، فراجع الرقم (40 و41).

الفصل الثانی

233 ـ قوله «وتنقسم أیضاً إلى الواحدة والكثیرة...»

المراد بالعلل الكثیرة أن تكون أنواع متعدّدةٌ عللاً لنوع واحد من المعلول كمایكون كلُّ واحد من الشمس والنار والحركة علّة للحرارة، لا أن تجتمع علل تامّة التأثیر على معلول واحد شخصیّ، وهو محال، ولا أن تجتمع علل ناقصة تشكّل علّة تامّة واحدة، وهى العلّة المركّبة. وفی هذا التقسیم اعتراف بصدور المعلول الواحد عن الكثیر فی الجملة، وسیأتی البحث عنه فی الفصل الرابع.

234 ـ قوله «وتنقسم أیضاً إلى علل حقیقیّة وعلل معدّة»

جعل العلل المعدّة فی مقابل العلل الحقیقیّة تلویح إلى أنّ العلّة المعدّة لیست علّة بالذات وفی الحقیقة لما هی معدّة له، وهو كذلك فإنّ علّیتها على هذا الوجه تكون بالعرض،(1) وان كانت حقیقیّة على وجه آخر وبالنسبة إلى أمر آخر، فحركة ید البنّاء علّة لانتقال الموادّ، ومن هذه الحیثیّة لا تعدّ معدّة بالمعنى الأخصّ، بل إعدادها إنّما هو بالنسبة إلى تحقّق البناء.


1. راجع: التحصیل: ص‌‌527.

الفصل الثالث

235 ـ قوله «فی وجوب وجود المعلول...»

هناك مسألتان یجمعهما تقارن المعلول مع العلّة التامّة، وهو متفرّع على وجوب كلّ واحد منهما بالقیاس إلى الآخر، وهذا غیر الوجوب الغیریّ المختصّ بالمعلول فی مقابل القول بكفایة الأولویّة، والذی مرّ البحث عنه فی الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

أمّا الوجوب بالقیاس فواضح بعد تصوّر معنى العلّة التامّة ومعلولها تصوّراً صحیحاً، فإنّ معنى العلّة التامّة أنّها واجدة لجمیع ما یتوقّف علیه وجود معلولها، فلو فرض عدم تحقّق المعلول بعد تحقّقها كان معنى ذلك أنّ تحقّقه رهن لأمر آخر وهو خلاف الفرض. إلاّ أن یفرض تحقّقه صدفةً وفیه إنكار أصل العلّیة، أو یفرض وجوب وجوده وخروجه عن نطاق ذلك الأصل، وهو ینافی إمكانه وسبق العدم علیه. كما أنّ كلّاً من الفرضین ینافی معلولیّته المفروضة. وكذلك معنى توقّف المعلول على العلّة استحالة تحقّقه بدونها وهو بعینه معنى وجوب العلّة بالقیاس إلیه.

والحاصل أنّ وجوب كلّ واحد منهما بالقیاس إلى الآخر بدیهیّ، وما ذكرنا من البیان لا یعدو حدّ التنبیه.

وأمّا مقارنة المعلول للعلة التامّة وعدم انفكاكه عنها وكون وجوبه بالقیاس متزامناً مع تحقّقها، ذلك التزامن الذی یفیده لفظ «عند» فی عنوان المسألتین، فقد أنكره قوم من المتكلّمین زاعمین أنّ الالتزام به ینافی حدوث العالم من ناحیة، واختیار الواجب تعالى من ناحیة اُخرى، ولذا نسبوا القول بكونه تعالى فاعلاً موجَباً (بالفتح) إلى الحكماء لالتزامهم بهذه القاعدة كالتزامهم بأختها أعنی قاعدة «الشیء ما لم یجب لم یوجد» وقد مرّ الكلام فیه فی الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

فتارة تشكّكوا فی التلازم بین الوجوب بالقیاس والتزامن كما سیأتی فی الإشكال المنقول عنهم فی المتن، وتارة ذهبوا إلى خروج الفاعل المختار عن مبدء العلیّة تخصّصاً وأنكروا إطلاق العلة علیه، وتارة خصّصوا القاعدة بالفاعل الموجَب (بالفتح) والتزموا بخروج الفاعل المختار عنها تخصیصاً، إلى غیر ذلك من التمحّلات.

والحقُّ أنّ استحالة انفكاك المعلول عن العلّة ووجوب تزامنهما إذا كانا زمانیّین قریب من البداهة إن لم یكن بدیهیّاً. لأن عدم تحقّق المعلول فی زمان تحقُّق العلّة التامّة إمّا أن یكون لأجل توقّفه على وجود أمر آخر لم یوجد بعدُ، وهو خلاف الفرض؛ أو لأجل وجود مانع من تحقّقه، فزوال المانع شرط لتحقّقه، ویرجع الأمر إلى عدم كون العلّة تامّةً لفقدانها لهذا الشرط العدمیّ، وهو خلاف الفرض أیضاً.(1)

ومن ناحیة اُخرى: إن وجود المعلول فی كلّ قطعة من الزمان تَسَعُه هو فرد لماهیّته، فعدم تحقّقه فی أیّة قطعة من الزمان تكون العلّة التامّة موجودة فیها ینافی وجوب ذلك الفرد بالقیاس إلى العلّة، ولا یكفی وجوده فی قطعة اُخرى من الزمان لأنّه فرد آخر.

وهذا بصرف النظر عن إثبات كون المعلول وجوداً رابطاً بالنسبة إلى علّته المفیضة التی هی عین العلّة التامّة إذا كانت بسیطة أو جزءٌ منها إذا كانت مركّبة، وأمّا بالنظر إلى ذلك فالأمر أوضح كما ذكر الاُستاذ(قدس‌سره) فی جواب الإشكال.

وأمّا ما ذكره من الوجهین فلا یصحّ عدّهما برهانین على القاعدة، فإنّ امتناع تحقّق العدم فی غیر زمان تحقّق علّته لیس أوضح من امتناع وجود المعلول فی غیر زمان وجود علّته، ولعلّهُ أشار إلى هذا بقوله «فافهم ذلك».


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الرابعة، والفصل الثانی من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والمسألة الثانیة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وراجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌477؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌131.

236 ـ قوله «فقد زعم قوم أنّ الفاعل المختار...»

قد أشرنا إلى أنّ بعض المتكلّمین حاول إنكار التلازم بین قاعدة وجوب العلّة والمعلول بالقیاس إلى بعضهما وقاعدة تزامنهما، وإلى فشل هذه المحاولة. ثمّ إنّ بعضهم ادّعى خروج الفاعل المختار ولا سیّما الواجب تعالى عن مصبّ مبدء العلّیة زاعماً أنّ الخلق نوع آخَرُ من التأثیر غیر العلّیة، وهو سخیف جدّاً، فإنّه لا معنى للعلّة إلاّ ما یتوقّف علیه شیء آخَرُ كما مرّ فی الأمر الأوّل، وإن أبىٰ أحد عن إطلاق لفظة العلّة علی الله تعالى فلیس له أن یستنكف عن قبول توقّف العالم علیه سبحانه، فلیعبّر عنه بما یحلو له من الألفاظ، والقاعدة العقلیة لا تدور مدار اللفظ.

وادّعى بعضهم اختصاص القاعدة بالفاعل غیر المختار مستنداً إلى وضوح انفكاك فعل الإنسان عن ذاته، واُجیب عنه بأنّ الإنسان لیس علّة تامّة لفعله، والكلام فی العلّة التامّة. ثمّ عقّب علیه بأنّ الله تعالى علّة تامّة للعالم بأجمعه، إذ لا یتصوّر وراءه أمر آخَرُ یتمّم علّیته، فیلزم على القاعدة قدم العالم ولا سبیل إلیه، لأنّ فیه سدّاً لباب إثبات الصانع، لأنّ ملاك احتیاج المعلول إلى العلّة ـ فی زعمه ـ هو الحدوث، وفرض قدم العالم یغنیه عن الصانع. واستنتج أنّ انتقاض القاعدة بفعل الواجب كاشف عن اختصاصها بالفاعل غیر المختار، وأمّا الفاعل المختار فلا یتّصف فعله بالوجوب بالقیاس بل لا یحتاج إلى مرجّح.

وقد أشار الاُستاذ(قدس‌سره) إلى أنّ مرجع هذا الكلام إلى إنكار مبدء العلّیة. واختار بعضهم بعد قبول لزوم المرجّح أنّ مرجّح الفعل إذا كان الفاعل مختاراً هو نفس إرادته، وكان الجواب الفصل ما أشار إلیه فی آخر المسألة أنّ إرادة الواجب إن كانت عین ذاته تعالى رجع الكلام إلى كون الذات علّة تامّة ومرجّحاً للفعل، وان كانت أمراً حادثاً كانت لا محالة من مخلوقاته وعاد الكلام إلیها، على أنّ ذلك یستلزم كون الذات معرضاً للحوادث وهو محال كما بُیّن فی محلّه. وأمّا القول

بكون الإرادة منتزعة عن مقام الفعل كسائر الصفات الفعلیّة فلا یغنیه شیئاً، لأنّ الأمر الانتزاعیّ لا یصلح علّةً لمنشأ انتزاعه.

237 ـ قوله «معنى كونه فاعلاً مختاراً...»

لمّا كان السبب فی إنكار جریان القاعدة بالنسبة إلى الواجب تعالى هو ما أشرنا إلیه من أنّهم زعموا أنّ ذلك یستلزم سلب الاختیار عنه تعالى من ناحیة، وقِدَم العالم من ناحیة اُخرى، لهذا تَعرّض الاُستاذ(قدس‌سره) لهاتین المسألتین، فبیَّن أنّ اختیار الواجب لیس رهنَ حدوث فعله حدوثاً زمانیّاً، بحیث إذا كان فعله قدیماً كان ذلك كاشفاً عن عدم اختیاره، بل حقیقة الاختیار كون الفاعل راضیاً بفعله غیرَ مجبور علیه، وهذا حاصل فی الواجب بتمام معنى الكلمة، حیث إنّه لا یُعقل أن یُجبِره شیء على الفعل. لأنّ المُجبِر المفروض إمّا أن یكون واجباً آخر أو شیئاً من مخلوقاته فیلزم الشرك، وإمّا أن یكون شیئاً من مخلوقاته نفسه، وهو محال أیضاً لأنّه یستلزم كونه تعالى متأثّراً عن مخلوقاته معلولاً لها، وهو سبحانه منزّه عن التأثّر والمعلولیّة والإمكان من جمیع الجهات. فالقاعدة لا تمتّ إلى الجبر بصلة أصلاً.

وأمّا حدوث العالم بالمعنى الذی یفسّرونه به فهو فرض یحتوی فی صمیمه على التناقض، لأنّ مسبوقیّة العالم بزمان خالٍ عنه یستلزم وجود الزمان قبل العالم وهو من العالم! وقد مرّ الكلام فیه فی الفصل السادس من المرحلة الرابعة، وسیكّرره فی الفصل الثالث والعشرین من المرحلة الثانیة عشر.

وكان ینبغی التصریح بأنّ التزامن إنّما یتصوّر بین أمرین زمانیّین، وأمّا إذا كان أحد الأمرین غیر واقع فی ظرف الزمان كالواجب تعالى فلا یتصوّر تقارنهما فی الزمان أصلاً.(1) ولعلّه بذلك ینحسم مادّة كثیر من المجادلات.


1. راجع: القبسات: ص‌‌89 و 248ـ249.

238 ـ قوله «وأمّا قول القائل بجواز أن یختار الفاعل المختار...»

لمّا فرغ من بیان المسألتین وأوضح أنّه لا یصحّ الاتكاء علیهما للمناقشة فی القاعدة أخذ فی بیان سائر الشبهات التی تشبّث المتكلّمون بها فی المقام.

فمنها أنّهم ادّعوا تارة عدم لزوم المرجّح فی فعل الفاعل المختار، وتارة اُخرى ذهبوا إلى أنّ الإرادة مرجّحة له فلا یحتاج إلى مرجّح آخر. وأجاب علیها بأنّ إنكار لزوم المرجّح فی مورد یعنی حصول المعلول بلا علّة تامّة، وهو محال. وأمّا الإرادة فلا تصلح بنفسها مرجّحةً للفعل، لأنّها أمر ذو إضافة، ولا تتحقّق إلاّ بتعیُّن ما تُضاف إلیه، فتعیُّن متعلّقها مقدّم على تحقّقها، فیحتاج إلى مرجّح غیرها.

واعلم أنّ هذه القاعده هی إحدى معارك الآراء، وقد دارت حولها مناقشات طویلة لا بین المسلمین فقط بل بین علماء اللاهوت من المسیحیّین وفلاسفتهم أیضاً، ونقل عن بعض المصوّرین الغربیّین أنّه صوّر حماراً مات جوعاً وعطشاً لاستواء طریقین متساویین بینه وبین محلّ الماء والعشب، یرید بذلك الاستهزاء بمقالة الفلاسفة فی استحالة الترجیح بلا مرجّح. وهذا نظیر ما قالوا انّ الهارب من السَّبُع إذا عنّ له (أی ظهر أمامه) طریقان متساویان لا یبقىٰ متحیّراً فی اختیار أحدهما حتّى یدركه السَّبُع بل یختار أحد الطریقین لینجی نفسه. واستنتج بعضهم أنّ المحال هو الترجُّح بلا مرجّح، وفی هذه الأمثلة ونظائرها إنّما یرجّح الفاعل أحد المتساویین بإرادته لا أن یترجَّح ذلك بلا مرجّح. وزعم بعضهم أنّ الترجیح بلا مرجّح إنّما یكون قبیحاً كترجیح المرجوح إذا لم یكن ضرورة فی اختیار أحدهما، وإلاّ فلا یكون قبیحاً فضلاً أن یكون محالاً.

وقد اختلط علیه أمر الترجیح الفلسفیّ بالترجیح الأخلاقیّ، وإنّما كلام الفلاسفة فی حصول المعلول بلا علّة تامّة له، ومرادهم باستحالة الترجیح بلا مرجّح استحالة

صدور الفعل من الفاعل الذی هو علّة ناقصة من دون ضمّ ما یتمّم العلّة. ویمكن أن یراد بلفظة «الترجیح» مصدر الفعل المجهول فیرادف الترجُّح.

وكیف كان فلا شكَّ أنّ الإرادة بمعنى التصمیم على الفعل الذی تهیّاً جمیع مقدّماته مؤثّرة فیه ومتمّمة لعلّته، وإنّما الكلام فی مبادئ تلك الإرادة وأنّه هل یكفی فی تعلّقها بفعل خاصّ من فعلین متساویین كون كلّ واحد منهما محقّقاً لغرضه أو یلزم علاوةً على ذلك ما یعیّن تعلّقها بأحدهما بعینه. وهذه الأمثلة لا تنفی مثل هذا المرجّح، وإنّما تنفی رجحان المتعلّق فی نفسه، فربما یكون المرجّح لتعلّق الإرادة بأحد الأمرین بعینه وقوعه فی جهة الیمین مثلاً أو قرب، جارحته المقدّمة منه، أو وقوع نظره علیه أوّلاً، إلى غیر ذلك ممّا یصلح سبباً لالتفات الفاعل إلى أحدهما بعینه وإن لم یشعر نفسه بالمرجّح بحیث لو سئل عنه لم یملك جواباً،(1) كما أنّ مثل هذا المرجّح لا یضرّ باختیاریة الإرادة، لأنّه یكفی فی الاختیاریّة كون الإرادة ناشیءة عن رضى الفاعل من غیر إجبار من الغیر، ولیس معنى تأثیره فی تعلّق الإرادة بأحد الأمرین كونه علّة تامّة لتحقُّق الإرادة حتّى یتوهّم أنّ مثل هذه الإرادة تصیر جبریّاً، فإنّ الإرادة فعل للنفس، وملاك كونها اختیاریّة هو ما أشرنا إلیه من صدورها عن رضىً كامن فی النفس من غیر إجبار مُجبر، وبها یصیر الفعل اختیاریّاً أیضاً.

239 ـ قوله «وأمّا قول من قال إنّه تعالى عالم...»

قال فی الأسفار: «ومنهم من قال إنّه تعالى عالم بجمیع المعلومات فیعلم أنّ أیّ المعلومات یقع وأیّها لا یقع، فما علم منه أنّه سیقع یكون واجب الوقوع لأنّه لو لم


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌209.

یقع كان علمه جهلاً، وإذا كان ذلك مختصّاً بالوقوع، وغیرهُ ممتنعَ الوقوع فلا جرم یرید ما یعلم أنّه یقع ولا یرید غیره لأنّ إرادة المحال محال».(1)

ثمّ أجاب عنه بوجهین: احدهما مبنیٌ على كون العلم تابعاً للمعلوم، وهو أنّ تخصیص وقوعه فی ذلك الوقت تبع لقصده إلى إیقاعه فیها، فلو كان القصد إلى إیقاعه فیه تابعاً لعلمه بوقوعه فیه لزم الدور. وثانیهما مبنیٌ على عدم كون علمه تعالى تابعاً للمعلوم، وهو أنّ علمه تعالى سبب لتحصُّل الممكنات مقدَّم علیها لا أنّه تابع لحصولها.(2)

وأمّا ما أجاب به الاُستاذ(قدس‌سره) من كون الإمكان متأخرّاً عن الوجود، فیوهم مناقضته لما مرّ فی الفصل السادس من المرحلة الرابعة من تقدُّم الإمكان على الحاجة المتقدّمة على الوجوب والوجود، وإن كان ذلك من منظر آخر ومن حیثیّة اُخرى.

والأحسن أن یقال: امتناع وقوع ما لا یقع إن كان ذاتیّاً فهو خارج عن محلّ الكلام، وإن كان امتناعاً بالغیر كان معلولاً لعدم تعلّق إرادته تعالى به، فتعلیق عدم إرادته على امتناعه بالغیر یستلزم الدور. ثمّ إنّ وجوب ما یقع لا یمكن أن یكون ذاتیّاً، فلا جرم یكون وجوباً بالغیر ولأجل تعلّق إرادته تعالى به، فالقول بأنّ سبب إرادته هو العلم بوجوب وقوعه یستلزم الدور. وكلٌّ من الامتناع بالغیر والوجوب بالغیر یلازم إمكانه الذاتیّ ولا ینقلب الإمكان بسبب تعلّق العلم به وجوباً، كما لا ینقلب بسبب عدم تعلّق العلم به امتناعاً، وهذا مراد من قال «العلم تابع» فافهم.

وقال السبزواری(رحمة‌الله) فی ما علّق على ثانی الوجهین اللذینِ ذكرهما صدر المتألّهین ما هذا لفظه: «یعنی علمه فی الأَزل بما علیه الشیء إن كان بسبب شیئیّة الوجود لزم الدور، وإن كان بسبب شیئیّة المهیّة یلزم ثبوت المعدوم، وإن كان بسبب شیئیّة


1. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌133.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌135ـ136.

المهیّة والعین الثابت متقرّراً بوجود الحقّ تعالى تبعاً وتطفّلاً كما سَیَجیء فی الإلهیّات فهو شیء لم یصلوا إلیه فضلاً عن وصولهم إلى كونه بسبب انطواء وجودات الأشیاء بنحو أعلى وأبسط فی وجود بسیط الحقیقة، مع أنّ ذلك العلم الأزلیّ الوجوبیّ لا یكون مخصّصاً للحدوث لكونه فعلیّاً».(1)

أقول: العلم من الصفات ذات الإضافة ولا یُعقل بدون فرض متعلّق له، فالمتعلّق إن كان هو المهیّة الموجودة فی الخارج فوجودها بصرف النظر عن تعلّق العلم به واجب بالغیر، فوجوبه لیس ناشیءاً عن العلم وإلاّ لدار. وإن كان المتعلّق نفس المهیّة بدون الوجود لزم ثبوت المهیّة قبل الوجود، وهو محال خلافاً لما زعمه بعض المتكلّمین.

فإن قلت: متعلّق العلم هو المهیّة الموجودة فی علم الباری تعالى.

قلت: لهذا الكلام تفسیران: أحدهما ما یزعمه العامّة من أنّ لله تعالى ذهناً كذهن الإنسان توجد فیه صور الأشیاء، وتلزم علیه توالى فاسدة جدّاً. وثانیهما ما قال به صدر المتألّهین فی باب علم الباری تعالى وأشار إلیه المحقّق السبزواریّ، من تحقُّق كلّ شیء بنحو البساطة فی ذاته تعالی لاشتماله علی كلّ الكلمات. فهذا المعنی مضافاً إلی أنّه یعید عن أذهان هؤلاء لا یصحّح تخصّص المعلول، لأنّ هذا العلم هو عین ذاته سبحانه وحكمه حكم الذات.

240 ـ قوله «وأمّا قول من قال إنّ أفعاله تعالى...»

هذا الكلام یوافق مشرب المعتزلة ومن حذا حذوهم، حاصله أنّ حدوث العالم فی زمان خاصّ دون سائر الازمنة إنّما هو لأجل كونه ذا مصلحة فی ذلك الوقت. ویلاحظ علیه أوّلا أنّ الزمان من لوازم العالم الجسمانیّ، ولیس قبل خلق العالم ولا بعده زمان حتّى یختصّ وجود العالم بزمان خاصّ. وثانیا لو فرض وجود زمان


1. راجع: هامش الأسفار: ج‌2، ص‌‌135 و 136.

قبل وجود العالم كان مخلوقاً له تعالى لا محالة، فینقل الكلام إلیه ویلزم قدم مخلوق واحد لا أقلّ منه، ولا یعقل حدوث الزمان فی زمان خاصّ كما لا یخفى. وثالثا انّ المصلحة تنتزع من ارتباط شیء بشیء آخر، ففی أجزاء العالم یصحّ أن یقال إنّ خلق بعضها فی مكان أو زمان خاصّ یكون ذا مصلحة بالنظر إلى مایرتبط به فی ذلك المكان أو الزمان، مثلاً یصحّ أن یقال إنّ خلق الإنسان فی الكرة الأرضیّة واجد لمصلحة لا توجد فی كرة اُخرى لما توجد فی الأرض من الهواء والأقوات وسائر لوازم حیاته، أو یقال إنّ خلق الإنسان قبل خلق الأقوات فیها لیس فیه مصلحة، وأمّا كلّ العالم فلیس له ارتباط بشیء آخر وراءه حتّى یقال إنّ خلقه فی وقت خاصّ یكون ذا مصلحة لا توجد فی سائر الأوقات.(1)

241 ـ قوله «فإن قلت: المعلول محتاج إلى العلّة حدوثاً...»

قد مرّ الكلام فیه فی الفصل السابع من المرحلة الرابعة، وإنّما تعرّض له ههنا أیضاً لأجل أنّ بقاء المعلول بعد فناء العلّة نوع آخَرُ من الانفكاك بینهما، فلو ثبت إمكانه كان ناقضاً لقاعدة التزامن. وكان ینبغی حلّ شبهة بقاء البناء بعد موت البنّاء(2) وأمثالها بأنّ هذه العلل من قبیل العل المعدّة، والكلام فی العلّة الحقیقیّة التی تشمل الفاعل الحقیقیّ وعلل القوام.

242 ـ وقد «وقد اندفعت بما تقدّم مزعمة اُخرى...»

قال فی الأسفار: «إنّ لهذا المطلب حیث تعصّبت طائفة من الجدلیّین فیه لا بدّ من


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌136؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌481.

2. راجع: الفصلین الأوّلین من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌526؛ وراجع: المسألة السادسة والثلاثین من الفصل الاول من الشوارق؛ والأسفار: ج‌1، ص‌‌219؛ وج2: ص‌‌212.

مزید تأكید وتقویة، فلنذكر فیه براهین كثیرة»(1) ثمّ ذكر عشرة براهین علیه، وبعد ذلك تعرّض لشبهات المخالفین ودفعها.

ونقل فی القبسات عن المعلّم الأوّل أنّ العدم الذی هو من الرؤوس الثلاثة(2) التی هی مبادی الكون هو العدم لا بزمان ولا بمكان. ثمّ نقل كلاماً عن الشیخ حاصله أنّ العدم مبدء بالعرض، لأنّ بارتفاعه یكون الكائن لا بوجوده.(3) وعقّب علیه بأنّ العدم المتقدّم على وجود الكائن، تقدُّماً بالزمان لیس بمقابل لوجود الكائن فی الزمان المتأخّر، فلا یصحّ أن یقال إنّ بارتفاعه یكون وجود الكائن، واستنتج أنّ العدم الذی بارتفاعه یكون وجود الكائن هو العدم الدهریّ.(4)

الفصل الرابع

243 ـ قوله «فی أنّ الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد»

هذه قاعدة معروفة فی ألسنة الحكماء، وقد عدّها السیّد الداماد من اُمّهات الاُصول العقلیّة،(5) وادّعى ابن رشد اتّفاق القدماء علیه، بل ربما یدّعى اتّفاق أهل النظر جمیعاً من العرفاء والمتكلّمین أیضاً.(6) غیر أنّ الإمام الرازیّ صرّح بالمخالفة،(7)


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌524؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌485494 و 54؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌383ـ392.

2. المُراد بالرؤوس الثلاثة هو المادّة والصورة والعدم، راجع: القبسات: ص‌‌175؛ وراجع: الأسفار: ج‌5، ص‌‌272؛ وج3: ص‌‌254.

3. راجع: النجاة: ص‌‌101؛ وراجع: المسألة الثامنة من الفصل الثالث من الشوارق.

4. راجع: القبسات: ص‌‌224ـ225.

5. راجع: نفس المصدر: ص‌‌351.

6. راجع: أساس التوحید: ص‌‌16.

7. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌460468.

ونسب جواز صدور الكثیر عن الواحد إلى الأشاعرة،(1) لكن ردّ علیه المحقّق الطوسیّ بأنّ الأشاعرة یقولون بأنّ الصفة الواحدة لا تقتضی أكثَر من حكم واحد، وأمّا الذات فلایعدّونها علّة حتّى ینسب إلیهم جواز صدور الكثیر عنها، واستنتج أنَّ الرازیَّ خالف الكلّ فی ذلك.(2) وناقش فیها صاحب المعتبر أیضاً بأنـّه لو صحّت هذه القاعدة لكانت الموجودات كلّها سلسلة واحدة لا تتكوّن حلقاتها إلاّ واحدة بعد واحدة، ولیس كذلك.(3) وكیف كان فالكلام حول هذه القاعدة یقع فی أمور:

الأمر الأوّل فی مفاد القاعدة وبیان مغزاها وتعیین مجراها. ویتوقّف هذا الأمر على توضیح مفهوم الواحد والصدور المأخوذین فیها. فنقول: أمّا الواحد فالمراد به ههنا البسیط كما صرّح به فی المتن. لكن عرفت سابقاً أنّ البسیط مفهوم مشكّك، فقد یطلق علىمالا یتركّب من مادّة وصورة خارجیّتین، فیشمل الأعراض والعقول بل نفس المادّة والصورة؛ وقد یطلق على مالایتصوّر له أجزاء بالفعل ولا بالقوّة حتّى لو كان ذلك بتبع الموضوع، فینحصر فی المجرّدات؛ وقد یطلق على ما لیس له أجزاء عقلیّة أیضاً ولا یتصوّر له أیُ تركیب حتّى من المهیّة والوجود، فیختصّ بذات الواجب تبارك وتعالى.

فإن كان المراد بالبسیط هذا المعنى الأخیر اختصّ جریان القاعدة بالواجب تعالى فیثبت بها أنّه لا یصدر منه فی المرتبة الاُولى إلاّ أمر واحد هو العقل الأوّل كما قالت به قاطبة الحكماء، أو النظام الجملیّ كما اختاره السیّد الداماد،(4) أو الوجود المنبسط والفیض المقدّس كما هو مختار العرفاء. وقد حاول صدر المتألّهین وبعض أتباعه الجمع بین مقالة الحكماء والعرفاء.(5)


1. راجع: تلخیص المحصّل: ص‌‌237.

2. راجع: نفس المصدر: ص238.

3. راجع: المعتبر: ج‌3، ص‌‌151.

4. راجع: القبسات: ص‌‌410 و 361ـ363؛ وراجع: أساس التوحید: ص‌‌504.

5. راجع: أساس التوحید: ص‌‌72ـ74.

وعلى هذا یكون المراد بالصدور صدور المعلول عن الفاعل الحقیقیّ الحقّ والاستناد الخاص المحض إلى العلّة المفیضة للوجود من غیر استناد إلى شرط أو استعداد خاصّ حاصل من المعدّات. وقد صرّح صدر المتألّهین بهذا الاختصاص فی موضع من الأسفار،(1) لكن ظاهر كثیر من كلمات الحكماء بل صریح بعضها هو عدم الاختصاص، ونقل عن بعضهم جریان القاعدة فی المعدّات أیضاً.(2)

وبناءً على التعمیم فالمراد بالبسیط هو الحیثیّة الواحدة التی یصدر عنها المعلول ولو كانت مقترنة بحیثیّات اُخرى. وبعبارة اُخرى فإنّ المركّب إنّما یتركّب من بسائط، فكلّ من أجزائه البسیطة لا یصدر عنه إلاّ معلول واحد، فتعدّد المعالیل تابع لتعدّد الحیثیّات فلا تكون أكثر من الحیثیّات الموجودة فی العلّة. والكلام الفصل فی بیان مجرى القاعدة یتوقّف على تحقیق مفاد أدلّتها.

وجدیر بالذكر أنّ إثبات وحدة الصادر الأوّل ینحصر طریقه عند القوم فی إثبات هذه القاعدة، لكن بعد إثبات التشكیك فی الوجود وأنّ وجود المعلول رابط بالنسبة إلى وجود العلّة الفاعلة وأنّ الوجود كلّما كان أقوى كان أبسط، أمكن اثبات وحدة الصادر الأوّل وبساطته من غیر حاجة إلى هذه القاعدة فتبصّر.

الأمر الثانی فی علاقة هذه القاعدة بقاعدة تسانخ العلّة والمعلول.(3) ویشهد لهذه العلاقة ما یلاحظ من الاستدلال بقاعدة التسانخ لإثبات هذه القاعدة فی كلام الاُستاذ(قدس‌سره). فینبغی إلقاء ضوء على تلك القاعدة حتّى یتبیّن مدى العلاقة بینهما. فنقول: السنخیّة بین العلّة والمعلول قد تلاحظ بین العلّة المفیضة ومعلولها، وقد


1. راجع: الأسفار: ج‌8؛ وراجع: الشوارق: المسألة الثانیة من الفصل الثالث.

2. راجع: أساس التوحید: ص‌‌5051.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌‌5355.

تلاحظ بین سائر أقسام العلّة الحقیقیّة والمعدّة والمعلول المنسوب إلیها. أمّا الأوّل فهو أمر قریب من البداهة إن لم یكن بدیهیّاً، فإنّ العلّة المفیضة هی المعطیة لوجود المعلول، ومن الواضح استحالة إعطاء الشیء لما هو فاقد له ورجوع ذلك إلى التناقض. فمقتضى هذه القاعدة أن تكون العلّة المفیضة واجدةً لكمال المعلول، لا لوجود المعلول بحدّه بحیث یلزم منه صدق ماهیّة المعلول على العلّة، بل بنحو اتمَّ وأعلى.

وأمّا السنخیّة بین الفاعل الطبیعیّ ومعلوله، وبین الشرط والمشروط، وبین المعدّات والمستعدّات فلیس ممّا یستقلّ به العقل بل یحتاج إلى التجربة. فاشتراط التركیب بین عنصرین بجریان الكهرباء أو وجود الحرارة مثلاً لیس ممّا یقضی به العقل قبل التجربة، فلا یستقلّ العقل بلزوم الشروط ولا بتعیینها ولا بوحدتها أو كثرتها. وهذا ممّا أغفله الحكماء واكتفوا بدعوى بداهة المسانخة إجمالاً وأنّه لولا ذلك لجاز تأثیر كلّ شیء فی كلّ شیء.

وكیف كان فمجرى قاعدة التسانخ هو العلّة المفیضة ومعلولها، فإن كان مجرى قاعدة «الواحد» أیضاً ذلك اتّحد موردهما، وإن عمّمتْ إلى سائر العلل كان موردها أعمَّ من قاعدة التسانخ، كما أنّه لو اختصّ مجراها بالواجب تعالى كان مجرى قاعدة التسانخ أعمَّ منها.

الأمر الثالث فی إثبات القاعدة. ادّعى السیّد الداماد كونها من فطریّات العقل الصریح وأنّ ما اُقیم علیها من البراهین بیانات تنبیهیّة.(1) وقال فی الشوارق: «فالحقّ ما ذكره الشارح القدیم من أنّ الحكم بأنّ الواحد لا یصدر عنه إلاّ الواحد، بدیهیّ لایتوقّف إلاّ على تصوّر طرفیه»(2) وقال المحقّق الطوسیّ فی شرح الإشارات: «وكان


1. راجع: القبسات: ص‌‌351.

2. راجع: المسألة الثانیة من الفصل الثالث من الشوارق.

هذا الحكم قریباً من الوضوح، ولذلك وسم الفصل بالتنبیه، وإنّما كثرت مدافعة الناس إیّاه لإغفالهم معنى الوحدة الحقیقیّة».(1)

وكیف كان فقد نقل فی المباحث المشرقیّة أربعة براهین علیها وناقش فی الجمیع،(2) وقد تصدّى أساطین الحكمة للردّ على شبهاته فی كتبهم كالقبسات(3) والأسفار،(4) والشوارق وغیرها. ولا یَسَعُنا الخوض فی جمیع ما قیل أو یمكن أن یقال بهذا الصدد.(5) فلنقتصر على ما اعتمد علیه سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) وهو روح أكثر البراهین لولا كلّها.

وحاصله أنّ من الواجب وجودَ سنخیّة ذاتیّة بین المعلول وعلّته، فلو فرض صدور أمرین متباینین أو أكثر عن علّة واحدة لزم أن یكون فی العلّة جهتان أو أكثر تُسانخ بكلّ واحدة منها واحداً من المعالیل، وقد فُرضتْ بسیطةً ذاتَ جهةٍ واحدة.

ویستفاد من هذا البرهان عدم اختصاص القاعدة بالواجب تعالى بل تشمل كلَّ ما یكون بسیطاً بحسب وجوده الخارجیّ، كما أنّها لا تختصّ بالواحد الشخصیّ بل النوع الواحد من العلّة أیضاً لا یصدر منه إلاّ النوع الواحد من المعلول، ویشهد له عدم التفصیل بین الواحد الشخصیّ والواحد النوعیّ فی هذه القاعدة بخلاف عكسها حیث خصّصها بالواحد الشخصیّ كما سیأتی فی المتن.

ویلاحظ علیه أنّ مجرى هذا البرهان هو العلّة البسیطة التی لیس لها إلاّ نوع واحد من الكمال، فلا یصدر منه إلاّ هو واجد لمرتبة نازلة منه. فالعقول العرضیّة ـ على القول بها ـ تكون مشمولة لهذه القاعدة بخلاف العقول الطولیّة وبخلاف ذات الواجب تبارك


1. راجع: أواخر النمط الخامس من شرح الإشارات.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌460468.

3. راجع: القبسات: ص‌‌351ـ367.

4. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌204ـ212؛ وج7: ص‌‌192ـ244.

5. راجع: التحصیل: ص‌‌531؛ والمطارحات: ص‌‌385ـ386؛ وشرح المنظومه: ص‌‌127؛ والتعلیقات: ص‌‌27.

وتعالى، فإنّها وإن كانت بسیطة إلاّ أنّها فی عین بساطتها واجدة لكمالات كثیرة على نعت الجمعیّة والوحدة، فهذا البرهان لا ینفی صدور الكثیر منها لعدم منافاته لقاعدة التسانخ.

وبذلك یظهر أنّ قاعدة التسانخ أعمُّ مورداً من هذه القاعدة، لشمولها للواجب تعالى والعقول الطولیّة بخلافها، فتفطّن.

الأمر الرابع فی عكس القاعدة، وهو أنّ المعلول الواحد لا یصدر إلاّ عن العلّة الواحدة. إنّ وحدة المعلول قد یُعنى بها وحدته الشخصیّة، فیكون مفاد القاعدة أنّ المعلول الواحد الشخصیَّ لا یصدر عن عدّة علل تامّة التأثیر، سواء كانت واحدة بالنوع أو لم تكن. وأمّا اجتماع عدّة علل ناقصة تشكّل علّة تامّة مركّبة فممّا لا كلام فیه.

وامتناع صدور فعل واحد شخصیّ عن فواعل متعدّدة تامّة الفاعلیّة واضح لا خلاف فیه. لأنّ مقتضى كون الفاعل تامّاً وجوبُ صدور الفعل عنه، ومقتضى تعدُّده تعدُّد الفعل، ففرض وحدة الفعل مع تعدّد الفاعل لا یستقیم إلاّ على فرض كون كلّ واحدة منها ناقصة التأثیر أو كون بعضها فاقدة التأثیر.

وقد یُعنى بوحدة المعلول وحدته بالنوع وإن كان متكثّراً بالشخص، فیكون مفاد القاعدة أنّ النوع الواحد من المعلول لا یصدر إلاّ عن نوع واحد من العلّة. وهذا ممّا وقع فیه الخلاف: قال فی المباحث المشرقیّة: «وأمّا الواحد النوعیُّ فالصحیح جواز استناده إلى علل كثیرة»(1) وقال فی التجرید: «وفی الوحدة النوعیّة لا عكس» وقال فی المطارحات: «وأمّا الأمر الكلّیّ كالحرارة المطلقة فیجوز أن یقال بوجه مّا أنّ لها عللاً كثیرة ـ إلى أن قال ـ فإنّها یجوز أن تقع جزئیّات منها بسبب الحركة، واُخرى بسبب الشعاع، واُخرى بسبب ملاقاة النار. ویجوز أن یكون للأشیاء الكثیرة


1. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌468.

لازم واحد بالنوع، وعرضیّ مفارق واحد أیضاً بالنوع».(1) وقال فی الأسفار: «وأمّا الواحد النوعیُّ فالصحیح جواز استناده إلى المتعدّد كالحرارة الواقعة إحدى جزئیّاتها بالحركة، واُخرى بالشعاع، واُخرى بالغضب، واُخرى بملاقاة النار».(2)

لكن قال السیّد الداماد بامتناع صدور الواحد عن الكثیر مطلقاً حتّى فی الشروط ومتمّمات العلّة»(3) وقال فی الشوارق: «وأمّا إذا لم یفرض اجتماعهما بل فُرض تبادلهما ابتداءً أو تعاقبهما فالمشهور هو الجواز، والمحقّق الشریف جوّز التبادل الابتدائیَّ دون التعاقب ـ إلى أن قال ـ والتحقیق امتناع كلیهما جمیعاً».(4)

والذی یقتضیه البرهان هو امتناع صدور المعلول الواحد النوعیّ عن الفواعل المفیضة المتكثّرة نوعاً، اداءً لحقّ التسانخ، فإنّه إن كان الفاعل ذا كمال واحد كان فعله الصادر عنه مرتبةً نازلةً من كماله، فلا یمكن أن یصدر عمّا هو فاقد لهذا الكمال؛ وإن كان الفاعل ذا كمالات كثیرة متمیّزة فی الوجود كان الفعل صادراً عنه بما أنّه واجد للكمال المسانخ له، فإذا كان الفاعل متعدّداً كان العلّة للمعالیل المتكثّرة بالشخص والواحدة بالنوع، نفسَ الكمال المشترك الذی هو واحد بالنوع، وأمّا صدور الحرارة عن أشیاءَ متعدّدة فلیس صدورَ فعل عن فاعل حقیقیّ مفیض للوجود.

الأمر الخامس فی ما یترتّب على القاعدتین. أمّا القاعدة الاُولى فبناءً على اختصاصها بالبسیط من جمیع الجهات لا یترتّب علیها إلاّ وحدة الصادر الأوّل، وقد مرّ أنّ القاعدة قاصرة عن إثبات ذلك، وأنّه یثبت من طریق آخر. وأمّا بناءً على تعمیمها لغیر الواجب وللواحد النوعیّ فیترتّب علیها أنّ كلّ ما یصدر عن علّة واجدة لنوع واحد من الكمالات الوجودیّة فهو واحد بالنوع. وقد استدلّوا بها فی


1. راجع: المطارحات: ص‌‌380.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌211.

3. راجع: القبسات: ص‌‌368.

4. راجع: المسألة الثانیة من الفصل الثالث من الشوارق.

موارد كثیرة: منها ما استُدلّ به لإثبات الصور النوعیّة وعدم جواز إسناد آثارها إلى المهیّة الجنسیّة؛ ومنها ما استُدلّ به لنفی علیّة المادّة للصور،(1) ومنها ما استدلّ به لإثبات القوى المتعدّدة للنفس ـ خلافاً لصدر المتألّهین فی منع الاستدلال بها لذلك ـ ؛ ومنها ما سیأتی فی البحث عن نفی الاتّفاق أنّ الطبیعة الواحدة لا تفعل إلاّ فعلاً واحداً؛(2) ومنها ما استُدِلّ به فی الأسفار على اعتبار غایة التباعد بین الضدّین؛(3) ومنها ما استُدلّ به لبیان قاعدة إمكان الأشرف، من أنّه لو صدر الأشرف والأخسّ معاً لزم صدور الكثیر عن الواحد،(4) إلى غیر ذلك.(5)

وأمّا القاعدة الثانیة فلستُ أذكر مورد الاستدلال بها إلاّ فى احتیاج المادّة إلى الفاعل غیر المادّیّ،(6) وفی إثبات توحید الواجب تعالى فی الربوبیة بناءً على وحدة العالم.(7) وفی كثیر من الاستدلالات بهما نظر لا یَسَعُنا بیان وجهه ههنا، فلیطلب من محالّها.

الفصل الخامس

244 ـ قوله «أمّا الدور فهو توقّف وجود الشیء على ما یتوقَّف وجوده علیه»

یستفاد من هذا التعریف أنّ الدور إنّما یتصوّر بین العلّة والمعلول، لأنّ التوقّف


1. راجع: التحصیل: ص‌‌341.

2. راجع: الفصل الثالث عشر من المرحلة الثامنة من المتن.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌114؛ وراجع: الفصل التاسع من المرحلة السابعة من المتن؛ وراجع: الرقم (229) من التعلیقة.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌434؛ والتلویحات: ص‌‌51؛ والقبسات: ص‌‌372ـ347؛ والأسفار: ج‌7، ص‌‌244ـ253؛ وأساس التوحید: ص‌‌131.

5. راجع: أساس التوحید: ص‌‌121.

6. راجع: الفصل السادس من المرحلة الخامسة من المتن.

7. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌94ـ99.

المأخوذ فی التعریف أمارة المعلولیّة، والمتوقَّف علیه هو العلّة، واستحالته ظاهر. وأمّا التسلسل فلا یختص بالعلّة والمعلول، بل مفهومه یشمل كلّ ما یترتّب على الآخر، ویختصّ الاصطلاح بما لا ینتهی إلى حلقة أخیرة من جهة الصعود أو النزول أو كلیهما.

والبراهین التی اُقیمت على استحالة التسلسل(1) على قسمین: منها ما یختصّ بتسلسل العلل، ومنها ما یعمّ العلل والمعالیل وغیرها، كما أنّ بعضها یختصّ بالأبعاد كالبرهان السلّمیّ وبرهان المسامتة. وهذان البرهانان وبرهان التطبیق تتشكّل من مقدّمات ریاضیّة، ویرد علیها أنّ الأحكام الریاضیّة تختصّ بالمقادیر المتناهیة، فلا یصحّ تعمیمها إلى غیر المتناهی حتّى تترتّب علیها توالی فاسدة مذكورة فی هذه البراهین. وقد أشار الاُستاذ(قدس‌سره) إلى أنّ أكثر البراهین لا تخلو من مناقشة. وأمّا البراهین المذكورة فی المتن فتختصّ بتسلسل العلل، وإن كان ربما یعمّم البرهان الثانی إلى غیرها أیضاً، وسیأتی الكلام فیه.

245 ـ قوله «لكنّ الشرط على أیّ حال أن یكون...»

هذه الشروط هی مورد الخلاف بین الحكماء والمتكلّمین. فالمتكلّمون لا یعتبرون هذه الشروط، ویُجرون براهین التسلسل فی الحوادث الواقعة فی طول الزمان والحوادث المجتمعة فی زمان واحد، فیقولون بامتناع تسلسلها ویستنتجون انتهاء سلسلة الحوادث إلى حادثة هی مبدأها واُخرى منتهاها، وكذا تناهی عدّة الحوادث فی كلّ زمان، وأمّا الحكماء فلایوجبون المبدء والمنتهی للحوادث الزمانیة


1. راجع: نفس المصدر: ج‌2، ص‌‌144ـ167؛ والقبسات: ص‌‌228ـ233؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌63؛ والمباحث المشرقیة: ص‌‌470477؛ وتلخیص المحصل: ص‌‌246؛ وراجع: المسألة الثالثة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وشرح المنظومة: ص‌‌129ـ131؛ والتحصیل: ص‌‌577.

ولاتناهیها فی زمان واحد استناداً إلى براهین التسلسل، بل یجوّزون عدم تناهیها لأجل ما یعتبرون فیها من الشروط الثلاثة. والمعیار فی اعتبار الشروط هو مفاد البراهین فینبغی النظر فی كلّ واحد منها على حدة.

246 ـ قوله «والبرهان علیه أنّ وجود المعلول رابط...»

هذا البرهان یختصّ بالعلل الفاعلیّة المفیضة، فإنّ المعلول انّما یكون رابطاً بالنسبة إلى علّته المفیضة لاغیر، ویجری فی العلل التامّة لاشتمالها على العلّة المفیضة، ومن الواضح اجتماع الشروط الثلاثة فی مصبّ هذا البرهان.

247 ـ قوله «برهان آخر وهو المعروف ببرهان الوسط والطرف»

هذا البرهان أقامه الشیخ أوّلاً على تناهی العلل الفاعلیّة، وقال فی آخر كلامه «وهذا البیان یصلح أن یُجعل بیاناً لتناهی جمیع طبقات أصناف العلل، وإن كان استعمالنا له فی العلل الفاعلیّة، بل قد علمت أنّ كلّ ذی ترتیب فی الطبع فإنّه متناهٍ، وذلك فی الطبیعیّات».(1) وهكذا عمّمه فی القبسات،(2) ووصفه صدر المتألّهین بأسدّ البراهین لإبطال التسلسل.(3)

ومن الواضح أنّ التعمیم إنّما یمكن بالتركیز على عنوانی الوسط والطرف، وعلى هذا فلقائل أن یقول: إنّ هذین العنوانین متضایفان، ومع الشكّ فی وجود الطرف یكون صدق عنوان الوسط على الموجودات التی فُرضتْ غیرَ متناهیة مشكوكاً فیه. لا یقال: یثبت عنوان الوسط لها بإثبات خاصّته وهو كون العلّیة


1. راجع: الفصل الأوّل من المقالة الثامنة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌558.

2. راجع: القبسات: ص‌‌229.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌145.

مشفوعة بالمعلولیّة، فإنّه یقال: إنّما یثبت ذلك فی تسلسل العلل، ففرض معلولیّة الجملة مستلزم لقبول علّة وراءها، وأمّا فی غیر العلل فلیس هناك ما یثبت شیئاً وراء الجملة غیر المتناهیة حتّى یثبت لها عنوان الوسط. فالسرّ فی ثبوت عنوان الوسط للعلل المتّصفة بالمعلولیّة أیضاً هو ثبوت كونها معلولة، فالتركیز فی البیان لیس على ما بالذات، ومع التركیز على عنوان المعلولیّة یرجع إلى برهان الفارابیّ، ولعلّه لذلك سمّی بالأسدّ علاوةً على كونه أخصر.

وإن سلّمنا فی غیر العلل صدق كون كلّ واحد من الحلقات متلوّاً بآخر، واستلزامَه لكون المجموع متلوّاً بآخر، وسلّمنا صحّة إطلاق الجملة والمجموع على غیر المتناهی، كان البرهان جاریاً فی الحوادث المتعاقبة فی طول الزمان أیضاً لصدق أنّ كلّ واحد منها مسبوق بآخر، ولیس فی البرهان ما یدلّ على اشتراط الاجتماع فی الوجود لعدم توقّف عنوانی الوسط والطرف على ذلك. ومع الإصرار على هذا الشرط یمكن أن یقال إنّه یكفی اجتماعها فی وعاء الدهر كما ذهب إلیه السید الداماد واستنتج منه امتناع امتداد الحوادث إلى لا نهایة فی جانب الأزل.(1)

248 ـ قوله «برهان آخر وهو المعروف بالأسدّ الأخصر»

هذا البرهان تامٌّ فی تسلسل العلل كما أشرنا إلیه، لأنّ المفروض أنّ كلّ حلقة من السلسلة لأجل معلولیّتها متوقّفة على ما قبلها ومشترطة بوجود حلقة قبلها، فما لم یوجد أمر غیر متوقّف على شیء ولا مشروط بهذا الشرط لا توجد حلقات لسلسلة مترتّبةً بعضها على بعض. والشروط الثلاثة موجودة فی مصبّ هذا البرهان، ولا دلیل على تعمیمه لغیر العلل، اللّهمّ إلاّ أن یقال بشموله للعلل المعدّة أیضاً فلا یعتبر شرط الاجتماع فی الزمان، فافهم.


1. راجع: القبسات: ص‌‌228.

تنبیه

249 ـ قوله «قال بعضهم...»

هذا هو كلام السیّد فی القبسات(1) وتقویم الإیمان، وقد نقله فی الأسفار(2) ملخّصاً، وعلّق علیه السبزواریّ وقال فی آخر كلامه «ولیت شعری لِمَ سكت المصنّف عن النفی والإثبات؟ ولعلّه سكت تأدّباً». وحاصله أنّ شرطَی الترتّب والاجتماع فی الوجود بالفعل حاصلان فی جهة التصاعد دون جهة التنازل، لعدم تحقّق المعلولات فی مرتبة ذات العلّة، بخلاف العلل فإنّها واجبة الحصول فی مرتبة ذات المعلول.

والذی یمكن أن یقال فی توجیه كلامه أنّ مراده بتحقّق العلّة فی مرتبة ذات المعلول وجوب وجودها عند وجود المعلول، وأنّ المراد بعدم تحقّق المعلول فی مرتبة ذات العلّة عدم وجوب وجوده عند وجودها. وهذا إنّما یصحّ فی العلل الناقصة كما نبّه علیه فی المتن.

وكیف كان فلا یثبت بهذا الكلام جواز تحقّق سلسلة غیر متناهیة من المعالیل فی الخارج، لأنّ وجود كلّ معلول یستدعی وجود جمیع أجزاء علّته التامّة، فتكون العلل الناقصة أیضاً واجبة الوجود بالقیاس إلى معالیلها، ومجتمعة الوجود فی مرتبة ذات المعلول ـ على حدّ تعبیر السیّد ـ فلو كانت براهین التسلسل جاریة فی غیر العلل أیضاً لا متنع تحقُّق سلسلة غیر متناهیة من المعالیل، وامتنع تحقق حوادث غیر متناهیة فی جانب الأبد على مذهب السیّد، حیث یعتبر الاجتماع فی وعاء الدهر كافیاً لجریان براهین التسلسل، وكان غایة ما یثبت بذلك البیان إمكان تحقّقها ذاتاً لا وقوعاً.


1. راجع: نفس المصدر: ص‌‌233ـ234؛ وراجع أیضاً: ص‌‌184.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌167ـ169.

250 ـ قوله «وأنت خبیر بأنّ البرهانین...»

قد عرفت أنّ برهان الفارابیّ یختصّ بالعلل، وأنّ برهان الشیخ إنّما یتمّ بإرجاعه إلى ذلك فراجع الرقم (247).

251 ـ قوله «والوجه فی ذلك...»

إثبات اعتبار هذه الشروط من طریق أنّ السلسلة إنّما تصدق بتوفّرها مشكل، لعدم دوران الأحكام العقلیّة مدار الألفاظ، مضافاً إلى منع عدم الصدق فی ما عدا الترتّب، فالمعیار لاختبار اعتبار شرط وعدمه هو مقتضى البرهان، وقد عرفت ما یقتضیه كلّ برهان على حدة.

252 ـ قوله «مقتضى ما تقدّم من البرهان استحالة التسلسل فی أقسام العلل كلّها»

سیأتی الكلام فی العلّة المادّیة والصوریّة فی الفصل الرابع عشر. وأمّا لا تناهی الصور التی هی علل صوریّة للمركّبات فیتصوّر على وجوه:

أحدها أن تكون المركّبات الموجودة فی زمان واحد غیر متناهیّة فتكون صورها أیضاً كذلك. وهذا ممّا لا دخل لبراهین التسلسل فیه، لعدم الترتّب بینها، إلاّ على مذهب من لا یرى الترتّب شرطاً فی التسلسل فیمنع وقوع حوادث غیر متناهیة فی زمان واحد استناداً إلى براهین التسلسل.

ثانیها أن تكون المركّبات المتعاقبة فی طول الزمان غیر متناهیة فتكون صورها أیضاً كذلك وهذا هو محلّ الكلام بین من یشترط الاجتماع فی الزمان كجمهور الفلاسفة ومن لا یشترط كالسیّد الداماد وجمهور المتكلّمین.

ثالثها أن تكون الصور متعاقبة على مادّة واحدة بالكون والفساد، وهذا أیضاً ممّا لا یمنعه جمهور الفلاسفة.

رابعها أن تكون الصور متراكبة على مادّة واحدة فی زمان واحد ـ عند من یجوّز تراكب الصور المتعدّدة بالفعل ـ وهذا مستحیل لتناهی كلّ موجود مادّی. وأمّا جریان براهین التسلسل فیه فمنوط بجریانها فی المعالیل، لأنّه لا علّیة بین الصور إلاّ من جهة توقّف كلّ صورة عالیة على صورة سافلة، والصورة السافلة تعدّ مبدء السلسلة، فغایة ما یلزم منه تسلسل المعالیل لا تحقّقها بلاعلّة مبتدأة.

خامسها أن تُفرض لكلّ صورة صورةٌ اُخرى لاعلى وجه التراكب بل على وجه التضامن، بأن تكون كلّ صورة مركّبةً من جزئین یكون أحدهما علّة صوریّة للمجموع وهكذا إلى غیر النهایة. وهذا الفرض مضافاً إلى أنّه ینافی بساطة الصورة، وتناهی الموجودات المادّیة، یكون مجرى براهین التسلسل أیضاً حتّى عند من یخصّها بالعلل، سوى البرهان الأوّل المذكور فی المتن حیث إنّه یختصّ بالعلل المفیضة كما نبّهنا علیه، لكنّ الكلام فی عدّ الصورة علّة للمركّب، فلقائل أن یمنع ذلك استناداً إلى أنّ المجموع المركّب عنوان انتزاعیّ، ولیس بین المادّة والصورة وبین المجموع تأثیر وتأثّر خارجیّ حتّى یصدق علیه عنوان العلّة حقیقةً ویثبت لها أحكام العلّة ممّا یختصّ بالتأثیر العینیّ،(1) مضافاً إلى ما فی وجود الهیولى من الشكّ، لو لم یكن نفیها معلوماً.

وأمّا فرض تعدّد الصور العرْضیة للمادّة الواحدة ففرض ساقط فضلاً عن لا تناهیها، لأنّ بتعدّدها تتعدّد المادّة، ویرجع الأمر إلى الوجه الأوّل.

وبالتأمّل فی ما ذكرنا یظهر حال العلل المادّیة فی التناهی وعدمه، وجریان براهین التسلسل فیها.

وأمّا العلّة الغائیّة فهی التی لأجلها یصدر الفعل عن الفاعل، ووجودُها الخارجی


1. سنعود إلیه تحت الرقم (279).

وإن كان متأخّراً عن الفعل ولیس له علّیة للفعل المتقدّم علیه إلاّ أنّ وجودها العلمیّ متقدّم علیه ومتمّم لفاعلیّة الفاعل، وسیأتی تفصیل الكلام فیها.

وأمّا لا تناهی العلل الغائیّة(1) فیتصوّر على وجوه:

أحدها أن تكون لاُمور غیر متناهیّة مجتمعةٍ فی الوجود عللٌ غائیّة غیر متناهیة، بحیث یكون لكلّ واحد منها علّة غائیّة متناهیة. وهذا كالوجه الأوّل المذكور فی العلل الصوریّة.

وثانیها أن تكون لاُمور متعاقبة غیر متناهیة علل غائیّة كذلك، وهذا بحذاء الوجه الثانی من الوجوه المذكورة هناك.

وثالثها أن تتناوب العلل الغائیّة فی طول زمان وجود المعلول، بحیث یكون وجوده فی الزمان الأوّل معلولاً لعلّة غائیّة خاصّة، وفی الزمان الثانی معلولاً لغایة ثانیة، وفی الزمان الثالث لغایة ثالثة، وهكذا إلى غیر النهایة. وهذا الوجه ـ على فرض صحّته ـ یحاذی الوجه الثالث المذكور هناك.

ورابعها أن تكون لفعلٍ واحدٍ غایةٌ، وللغایة غایةٌ اُخرى وهكذا، بحیث یكون الوصول إلى كلّ غایةٍ ذریعةً إلى الوصول إلى غایة فوقها. وتسلسل مثل هذه الغایات مستحیل، لأن المفروض توقّف وجود المعلول علیها فیجری فیه برهان الفارابىّ وبرهان الشیخ، بل البرهان الأوّل أیضاً، لأنّ العلّة الغائیّة متمّمة لفاعلیّة الفاعل كما أشرنا إلیه.

وأمّا فرض كون الغایة متضمّنة لغایة اُخرى حتّى یتناظر مع الوجه الخامس من الوجوه المذكورة فی العلل الصوریّة فساقط، لأن العلّة الغائیّة مغایرة لوجود المعلول، فلا یصحأن تكون الغایة مشتملة على غایة اُخرى، سواء فی الوجود العینیّ أو العلمیّ. لكن یتصوّر ههنا وجه آخر لایجری فی العلل الصوریّة، وهو اجتماع غایات متعدّدة لفعل واحد، وحكمه نظیر حكم الوجه الأوّل، وسیأتی الكلام فیه تحت الرقم (258).


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌169 و 265؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌539؛ والتحصیل: ص‌‌559.

الفصل السادس

253 ـ قوله «قد تقدّم أنّ المهیّة الممكنة...»

عطف على كلامه فی ابتداء الفصل الأوّل من هذه المرحلة، وقد ذكرنا هناك أنّ الألیق بالقائل بأصالة الوجود أن یركّز على الوجود لا المهیّة. وحاصل هذا البیان أنّ المهیّة التی تكون فاقدة فی حدّ ذاتها للوجود لا تتلّبس به إلاّ بإعطاء الغیر، وهو الفاعل.

وجدیر بالذكر أنّ للفاعل فی عرف الفلاسفة اصطلاحین: أحدهما فی الفلسفة الاُولى والإلهیّات والمراد به معطی الوجود وموجد المعلول؛ وثانیهما فی الطبیعیّات والمراد به سبب الحركة. وهذا البیان یثبت الفاعل الإلهیّ الذی یفیض الوجود والذی سیأتی أنّه فوق الطبیعة.

وقد شبّه الفاعل الإلهیّ بالفاعل الطبیعیّ الذی یصیر منشأ للحركة فی الأجسام، تقریباً إلى الأذهان، ثمّ انتقل إلى مقالة المادّیّین المنكرین للفاعل الإلهیّ. ولْیُعلمْ أنّ قصرهم العلل فی العلل المادّیة لیس بمعنى قصرهم إیّاها فی العلّة المادّیة التی تعدّ كقسم من العلل الأربع والتی هی جزء مقوّم للمعلول، بل المراد بالعلل المادّیة ههنا ما یشمل الفاعل الطبیعیّ والمعدّات أیضاً، فتبصّر.

الفصل السابع

254 ـ قوله «ذكروا للفاعل أقساماً»

اعلم أنّهم قد قسموا كلَّ واحد من العلل إلى ما بالذات وما بالعرض، وإلى القریب والبعید، وإلى الخاصّ والعامّ، وإلى الجزئیّ والكلّیّ، وإلى البسیط والمركّب، وإلى

ما بالقوّة وما بالفعل.(1) وأمّا أقسام العلّة الفاعلیّة فلیست مأثورة عن القدماء، وقد ذكر صدر المتألّهین فی كتبه لها ستّة أقسام،(2) وذكر فی تعلیقته على إلهیات الشفاء بعد ذلك تقسیماً آخر للفاعل إلى التسخیریّ وغیره،(3) والّذی أنهى الأقسام إلى الثمانیة ـ فی ما نعلم ـ هو المحقّق السبزواریّ فی منظومة الحكمة.(4)

ثمّ إنّه عرّف فی الأسفار الفاعل بالجبر بالّذى یصدر عنه فعله بلا اختیار بعد أن یكون من شأنه اختیار ذلك الفعل وعدمه. والظاهر أنّ مراده بذلك أن یكون صدور الفعل عنه بقهر قاهر بحیث یسلب عنه الاختیار بالكلّیة، لا الفاعل المكَره الّذى یختار الفعل لأجل تهدید الغیر ـ على ما یظهر من كلام الاُستاذ(قدس‌سره) ـ ویؤیّده أنّه صرّح تارةً بكون الفاعل بالجبر مشتركاً مع الفاعل بالطبع والفاعل بالقسر فی كونها جمیعاً بالتسخیر، واُخرى بنفی الاختیار عنهما.(5)

وكیف كان ففی عدّ الفاعل بالقسر والفاعل بالجبر نوعین من الفاعل نظر، لأنّ الفعل الّذى یصدر بالقسر إنّما هو فعل للقاسر، ولیس للمقسور إلاّ الانفعال، وكذلك الفاعل بالجبر بالمعنى الّذى استظهرناه من كلام صدر المتألّهین. وأمّا بالمعنى الذی فسّر به فی المتن فهو من قبیل الفاعل بالقصد كما نبّه علیه الاُستاذ(قدس‌سره).

ثمّ إنّ صدر المتألّهین عرّف الفاعل بالعنایة بالفاعل الّذی یكون فعله تابعاً لعلمه التفصیلیّ بوجه الخیر فیه من غیر قصد وداعٍ زائد على ذاته، واختار كون فاعلیّته


1. راجع: الفصل الثانی عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌522؛ والمسألة السابعة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وشرح المنظومة: ص‌‌125.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌220ـ225؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌133ـ135.

3. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌244.

4. راجع: شرح المنظومة: ص‌‌115.

5. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌222؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌134.

تعالى من هذا القبیل،(1) وفی الواقع یكون الفاعل بالتجلّی عنده أحد قسمَی الفاعل بالعنایة، ویمتاز بكون العلم التفصیلیّ فیه عین ذات الفاعل.

وكیف كان فوجه امتیازه عن الفاعل بالقصد هو احتیاج الفاعل بالقصد إلى القصد الزائد على الذات بخلافه. وأمّا التمثیل بسقوط من وقع على جذع عال بمجرّد التصوّر، فلعلّه مبنیٌّ على المسامحة والتقریب إلى الذهن، والحقُّ أنّ هذا السقوط أمر قسریّ عامله جاذبیّة الأرض مثلاً، ولیس فعلاً صادراً عن ذلك الشخص، ونسبته إلى الساقط هی نسبة الانفعال إلى المنفعل لا نسبة الفعل إلى الفاعل بالمعنى الفلسفیّ أی المؤثّر، وإن صحّ اعتباره فاعلاً بالمعنى النحویّ، فتفطّن.

الفصل الثامن

255 ـ قوله «فی أنّه لا مؤثّر فی الوجود...»

قال فی الأسفار: «قد اشتهر من الفلاسفة الأقدمین أنّ المؤثّر فی الوجود مطلقاً هو الواجب تعالى، والفیض كلّه من عنده، وهذه الوسائط كالاعتبارات والشروط التی لابدّ منها فی أن یصدر الكثرة عنه تعالى فلا دخل لها فی الإیجاد بل فی الإعداد» ثمّ نقل حجّة علیه من بعضهم وناقش فیها وقال فی آخر كلامه «ولنا بفضل الله وإلهامه برهان حكمیّ على هذا المقصد العالی ستطّلع علیه إن شاء الله تعالى».

واعلم أنّ لهذا الكلام تفاسیر:

أحدها نفی التأثیر مطلقاً عن غیر الواجب تعالى كما حكی عن الأشاعرة، وهو باطل بالضرورة، بل به ینسدّ باب إثبات الواجب بالبرهان.

ثانیها نفی التأثیر الذی لا یحتاج إلى تأثیر الغیر عن غیره سبحانه، وهو مقتضى


1. راجع: الأسفار: ج‌2: ص‌‌225؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌135.

كونه علّةً اُولى تنتهی إلیه سلسلة الفواعل وكون الجمیع مسخّرات بأمره، كما علیه جمیع الفلاسفة وغیر الأشاعرة من المتكلّمین.

وثالثها نفی التأثیر الاستقلالیّ عن غیره سبحانه بمعنى كون جمیع الفواعل روابط مَحْضَة غیر مستقلّة فی الذات والتأثیر وكونها مجاری فیضه أو شرائط لقابلیّة القوابل. وهذا هو ما أثبته صدر المتألّهین(قدس‌سره) بالبرهان، وبذلك فتح باباً عظیماً لحلّ مسائل التوحید، ومن جملتها التوحید الأفعالیّ المبحوث عنه ههنا، وهو مفاد الحوقلة وكثیر من الآیات الكریمة والروایات الشریفة، فجزاه الله عنّا خیر جزاء المعلّمین.

وجدیر بالذكر أنّ إطلاق المعدّ على غیره سبحانه من الفواعل یكون باصطلاح خاصّ غیر ما مرّ، وذلك أنّ له اصطلاحات ثلاثة:

الاوّل: ما یقرّب المادّة إلى تأثیر الفاعل ویهیّئها له، وهو ما مرّ.

الثانی: ما یقتضی التغیّر بوجه، فیشمل الفاعل الطبیعیّ دون المجرّد.

الثالث: ما لا یفیض الوجود استقلالاً فیشمل ما سوى الله تعالى من العلل، وهو المراد به ههنا.

الفصل التاسع

256 ـ قوله «والقول بأنّ العلّة التامّة...»

قد مرّت الإشارة إلى ما فی عدّ المادّة والصورة علّتین من النظر، وسیأتی بیانه.

الفصل العاشر

257 ـ قوله «ومجرّد فرض الفاعل تامَّ الفاعلیّة...»

هذا الكلام لا یوافق ما مرّ منه فی الفصل الثانی من المرحلة الرابعة أنّ الإمكان

بالقیاس لا یتحقّق بین موجودین مطلقاً، وقد أشرنا إلى المناقشة فیه، فراجع الرقم (61).

الفصل الحادی عشر

258 ـ قوله «فی العلّة الغائیّة...»

اعلم أنّ الشیخ وصف البحث عن العلّة الغائیّة بأفضل أجزاء الحكمة،(1) وتبعه على ذلك تلمیذه فی التحصیل(2) وصدر المتألّهین فی الأسفار.(3) وبالرغم من بذل جهود وافرة لحلّ مسائلها فقد بقیتْ لها زوایا خفیّة تستدعی جهوداً اُخرى، ولعلّ المولى تعالى یوفّقنا لإلقاء ضوء على بعض تلك الزوایا، وهو الولیّ الحمید. وبهذا الصدد ینبغی تقدیم اُمور:

الامر الاوّل فی بیان حقیقة الغایة والعلّة الغائیّة. الغایة فی اللغة المدىٰ والمنتهىٰ، ویستعمل بمعنى الفائدة المقصودة من الفعل، بمناسبة انتهاء الفعل إلیها. ویستعمل فی الاصطلاح بمعنى نهایة الحركة، وبمعنى ما یفعل الفاعل فعلَه لأجله، وربما یحصل الخلط بین المعنیین.(4)

ومن الواضح أنّ تحقُّق الغایة فی الخارج مترتّب على الفعل ومتأخّر عنه، ولا یعقل تأثیرها فی وجود الفعل المتقدّم علیها، بل بالحقیقة یكون الفعل والحركة علّة معدّة لحصولها. فالغایة الخارجیّة لا علّیة لها بالنسبة إلى الفعل، وإنّما العلّیة لوجودها العلمیّ المتقدّم على الفعل، وربما نسبوا التأثیر إلى مهیّتها التی توجد قبل وجودها


1. راجع: آخر الفصل الأخیر من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌549.

3. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌270.

4. راجع: المطارحات: ص‌‌431.

الخارجیّ بالوجود الذهنیّ، وهو یوافق القول بأصالة المهیّة وإن تفوّه به بعض القائلین بأصالة الوجود أیضاً. بل الحقُّ أنّ وجودها العلمیّ أیضاً لیس علّة مؤثّرة فی تحقُّق الفعل إلاّ بمعنى الشرط، وإنّما المقتضی هو الحبّ، وما یترتّب علیه من الإرادة (فی مقابل الكراهة) والشوق والطلب والقصد وما یشابهها من المعانی التی تُعَدّ من المبادئ النفسیّة لأفعال ذوی النفوس، وأمّا نفس الحبّ فیوجد فی المجرّدات التامّة أیضاً. وإنّما ینسب العلّیة إلى الغایة لكونها متعلّق الحبّ والعلم، فتبصّر.

الامر الثانی فی نبذ من أحكام الغایة بالمعنیین. إنّ الفعل إنّما یكون ذا غایة بمعنى نهایة الحركة إذا كان أمراً ممتدّاً متدرّج الوجود، وأمّا الأمر المجرّد الذی لا تعلّق له بالمادّة فلا یُعقل له غایة بمعنى نهایة الحركة وطَرَف الامتداد. وأمّا الحركة والأمر المتدرّج الوجود فغایتها هی طَرَف امتدادها، وهو أمر عدمیّ. بمنزلة النقطة من الخّط وسیأتی أنّ الحركة بما هی لا تقتضی وجوداً ثابتاً وراءها، وإذا ترتّب على الحركة وجود ثابت فهو یقارن غایة الحركة بوجه، فیكون غایة بالعرض، فغایة الحركة بالذات هی نقطة انتهائها.

وأمّا الغایة بمعنى الفائدة المقصودة من الفعل والتی لأجلها یفعل الفاعل فعله فتختصّ بالفاعل ذی الشعور، وربّما تتّحد بحسب الوجود الخارجیّ مع غایة الحركة وإن اختلفت الحیثیّتان، كما إذا حصل شوق بمجرّد تخیُّل الوصول إلى غایة الحركة فبعثَ الفاعلَ نحوها؛ وقد تكون أمراً مقارناً لها كلقاء الصدیق المقارن للوصول إلى مكان خاصّ.

ثمّ إنّ الغایة بهذا المعنى قد تكون مطلوبة لنفسها بحسب قصد الفاعل فتكون غایةً أخیرة له، وقد تكون مطلوبة لأجل التوصّل بها إلى أمر آخر فتكون غایة متوسّطة، كما إذا كان غایة السفر الوصولَ إلى معهد علمیّ وكان ذلك وسیلة إلى التعلّم، وكان التعلّم مقصوداً لأجل العمل، والعمل لأجل التقرّب إلى الله تعالى. لكن

یمكن أن یتعلّق قصد الفاعل بنفس التعلّم بالأصالة من دون أن یكون ذریعة إلى العمل، فیكون هو الغایة القصوى بالنسبة إلیه، فتفطّن.

وكما یمكن أن تكون لفعلٍ واحدٍ غایاتٌ مترتّبة طولاً كذلك یمكن أن تكون لفعلٍ واحدٍ غایاتٌ متعدّدة عرْضاً بحیث یكون كلّ واحدة منها جزءَ الغایة ولولا بعضها لم یصدر ذلك الفعل، أو یكون كلّ واحدة منها غایة مستقلّة. ولا یمتنع اجتماع الغایات المستقلّة بخلاف الفواعل المستقلّة. وذلك أنّ الفاعل إذا كان له مقصودات متعدّدة وعَلِم أنّ جمیعها تحصل بفعل واحد صحّ اعتبار الجمیع عللاً غائیّة له بمعنى ما لأجله، وأمّا الغایة بمعنى منتهى الحركة فلا تتعدّد فی الحركة الواحدة.

الامرالثالث فی بیان وجه الحاجة إلى العلّة الغائیّة. الفعل الاختیاریّ هو الّذی یصدر عن علم من الفاعل ورضىً منه، وهذان المبدءان یفترقان عن بعضهما فی النفوس المتعلّقة بالمادّة كما یفترقان فیها عن ذات الفاعل، وأمّا فی المجرّد التام فتتّحد الجمیع لمكان بساطة وجوده، كما أنّ صفات الواجب تبارك وتعالى عین ذاته المقدّسة.

ثمّ إنّ النفوس لمكان فقدانها للكمال الذی یترتّب على الفعل تشتاق إلیه، وفی الحقیقة یكون فعلها لأجل الاستعداد لنیل كمال جدید، وأمّا المجرّد التامّ فلیس فاقداً لأیّ كمال ممكن له، فلا یتصوّر له شوق إلى شیء، وإنّما له الحبّ فحسب. وقد أشرنا فی الأمر الأوّل إلى أنّ العلّة الغائیّة هی الحبّ المشترك بین جمیع الفواعل العلمیّة.

فتلخّص أنّ وجه الحاجة إلى العلّة الغائیّة هی قوام الفعل الاختیاریّ بها، وبعبارة اُخرى: فاعلیّة مثل هذه الفواعل تقتضی استناد أفعالها إلى العلم والرضى. إلاّ أنّهما قد یكونان زائدین على الذات كما فی النفوس، وقد یكونان عین الذات كما فی المجرّدات التامّة. فقد ظهر أنّ العلّة الغائیّة تختصّ بالفاعل العلمیّ، ولا معنى لتحقّقها فی ما هو فاقد للشعور.

إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّ الغایة بمعنى منتهى الحركة لا تمتّ إلى العلّة

الغائیّة بصلة إلاّ باعتبار اتّحادها أو تقارنها مع متعلّق العلم والحبّ فی الأفعال المتدرّجة، كما أشرنا إلیه فی الأمر الثانی.

ثمّ اعلم أنّه لا اختلاف بین الحكماء فی وجود العلّة الغائیّة للفعل الاختیاریّ فی الجملة، وإنّما الاختلاف فی ثبوتها للأفعال الطبیعیّة، ولبعض الأفعال الإرادیّة كالجزاف والعبث ولأفعال الواجب تبارك وتعالى. فالكلام یقع فی ثلاث مسائل:

المسألة الاُولى: فی العلّة الغائیّة للأفعال الطبیعیّة. إنّ وجود العلّة الغائیّة للفعل الطبیعیّ یتصوّر على وجوه:

أحدها: أن یُفرض للفاعل الطبیعیّ شعور وشوق، وهذا ما التزم به صدر المتألّهین فی مواضع من كتبه،(1) فذهب إلى أنّ للموجودات المادّیة مرتبةً من العلم والشوق. وهو ینافی ما ذهب إلیه من أنّ العلم نحو الوجود المجرّد، ویستلزم رجوع الفاعل الطبیعیّ إلى العلمیّ والإرادیّ، إلى غیر ذلك من الإشكالات.

ثانیها: أن یُفسّر الشوق والطلب والإرادة بالمیل الطبیعی لكلّ طبیعة إلى غایة خاصّة، كما ربما یظهر ممّا حكی عن المعلّم الأوّل، ویرجع إلى أنّ لحركة كلٍ من الطبائع جهةً خاصّةً تتعیّن باقتضاء من نفس الطبیعة. لكن تسمیة ذلك شوقاً أو نحوه لا یعدو حدّ المجاز، ولا یثبت به أمر حقیقیّ.

ثالثها: أن یُسند العلم والشوق إلى طبیعة العالَم، ویرد علیه ما یرد على الوجه السابق، مضافاً إلى منع وجود مثل هذه الطبیعة.

رابعها: أن تُسند المبادئ العلمیّة إلى المُثُل العقلیّة، وهو إنّما یتمّ على مذهب الأفلاطونیّین، مضافاً إلى أنّ ذلك یرجع إلى اثبات العلّة الغائیّة للمُثُل لا للطبائع.

خامسها: أن تُسند المبادئ العلمیّة إلى الفاعل المسخِّر، وینتهی إلى الواجب


1. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌273ـ278 و 232ـ246؛ وج7: ص‌‌148ـ168؛ وراجع: رسائل ابن سینا: ص‌‌379؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌522.

تبارك وتعالى. وهذا الوجه وإن كان حقّاً إلاّ أنّ مرجعه إلى اثبات العلّة الغائیّة للفاعل غیر الطبیعیّ، لكن یثبت به كسابقه أن للأفعال الطبیعیّة غایاتٍ مقصودةً فی الجملة، فلا یصحّ عدّها جزافیّة أو اتّفاقیّة.

وأمّا المنكرون للعلّة الغائیّة بالنسبة إلى الأفعال الطبیعیّة فقد احتجّوا بحجج ضعیفة ستأتی الإشارة إلیها فی المتن، واستنتجوا نفی العلّة الغائیة لها على الإطلاق ـ على ما حكی عنهم ـ.. والذی یصحّ التمسّك به هو عدم الشعور للفاعل الطبیعیّ، لكنّه ینتج نفی العلّة الغائیّة لنفس الطبیعة لا للفاعل المسخِّر، فافهم.

المسألة الثانیة: فی الجزاف والعبث ونحوهما. سیأتی التعرّض لهذه المسألة فی الفصل الآتی، ولا بأس بالإشارة إلى ملخّص البحث ههنا، فنقول: إن الأفعال الإرادیّة تصدر غالباً لأجل التوصّل بها إلى فائدة تترتّب علیها، لكنّ الفاعل المختار قد یفعل فعلاً بلا قصد إلى ترتّب فائدة علیه كحركات الصبیان وانتقال المریض من جانب إلى جانب آخر واللعب باللحیة وغیرها، فتوهّم بعضهم أنّ هذه الأفعال فاقدة للعلّة الغائیّة. وحاصل ما ذكروا فی دفع هذا التوهّم أنّ العلل الغائیّة أعمُّ ممّا یرتضیه العقل وتقتضیه الحكمة، وكذا أعمُّ ممّا یُلتفت إلیه ویُقصد تفصیلاً، فهذه الأفعال وإن كانت فاقدة للأغراض العقلیّة أو كانت غیر مسبوقة بالالتفات التفصیلیّ إلاّ أنّها لیست فاقدة للغایات مطلقاً، وفی جمیعها ما یوجب نوع التذاذ للفاعل.

المسألة الثالثة: فی العلّة الغائیّة لأفعال الله تعالى. قد عرفت أنّ العلّة الغائیّة لفعل الفاعل المختار فی الحقیقة هو حبّ الفاعل، فإذا ثبت أنّ للواجب تعالى حبّاً وابتهاجاً بذاته لذاته،(1) وأنّ حبّ الشیء یستلزم ذاتاً حبَّ لوازمه وآثاره، صحّ أن


1. راجع: الفصل الأخیر من المقالة الثامنة والفصل الرابع من المقالة التاسعة من إلهیّات الشفاء؛ وراجع: آخر النمط الثامن من شرح الإشارات؛ والتحصیل: ص‌‌577؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌263ـ264؛ والتلویحات: ص‌‌91؛ وحكمة الإشراق: ص‌‌136؛ والتعلیقات: ص‌‌72 و 157؛ والنجاة: ص‌‌246.

یُعتبر حبُّه تعالى لذاته بالأصالة ولآثاره بالتبع مقتضیاً لأفعاله، فصحّ إطلاق العلّة الغائیّة على حبّه الذی هو عین ذاته، ویلزم اتّحاد العلّة الفاعلیّة والعلّة الغائیّة فیه سبحانه، ویجری ذلك فی جمیع المجرّدات التامَّة. وأتباع المشّائین جعلوا علمه بنظام الخیر هو الغایة، وقد عرفت أنّ العلم بما أنّه علم لا یكون مقتضیاً للفعل، واتّحاد العلم بذاته سبحانه لا یوجب جعل حیثیّة العلم هو الغایة، وإلاّ فلیكن القدرة أو الحیاة غایة!

ومن الفلاسفة من أنكر العلّة الغائیّة لفعل الواجب تعالى كشیخ الإشراق(1) استناداً إلى أنّ العلّة الغائیة تختصّ بالفاعل المرید، وفعله تعالى أعلى من أن یكون بإرادة. وبعبارة اُخرى: إذا كان المراد بالغایة ما یتعلّق به قصد الفاعل أوّلا وبالأصالة، ویقصد الفعل ثانیاً وبتبعه، فهی تختصّ بالفاعل بالقصد، وهو سبحانه أجلّ من ذلك. والجواب أنّ الغایة ما یتعلّق به حبّ الفاعل وهو یستلزم الشوق والقصد فی بعض الموارد، فلیس الملاك هو القصد والإرادة العارضة بل الحبّ الذی هو أعمّ ممّا یكون عین ذات الفاعل أو أمراً عارضاً له.

ونسب إلى المعتزلة أنّ غایة أفعاله تعالى هی المصالح التی تترتّب علیها والفوائد التی تعود إلى المخلوقین، فهو تعالى یفعل أفعاله لأجل تلك المصالح، وهذا فی قبال ما نسب إلى الأشاعرة من إنكار الحكمة والمصلحة فی أفعاله سبحانه. وقد عرفت سابقا(2) أنّ المصلحة تنتزع من ارتباط الأشیاء بعضها ببعض، وأمّا الفعل المتعلّق بالكلّ وبالصادر الأوّل فلا یجری فیه ذلك. ثمّ إنّ المصلحة الخارجیّة تترتّب على الفعل ولیس لها علّیة كما عرفت فی الأمر الأوّل، فلابدّ من اعتبار العلم بالمصلحة علّة غائیّة، فیمكن إرجاع هذا القول إلى قول من یقول بأن


1. راجع: المطارحات: ص‌‌427429.

2. راجع: التعلیقة: الرقم (240).

العلم بنظام الخیر هو الغایة. كما یمكن أن یفسّر المصلحة بمطلق الخیر ویعتبر حبّه تعالى للخیر علّة غائیة لفعله، فیرجع إلى ما حقّقناه.

والحاصل أنّه إن كان المراد بالعلّة الغائیّة ما یكون زائداً على ذات الفاعل ـ سواء كـان ذلك علماً أو حبّاً أو شـوقاً أو إرادة ـ فهی منفیّة عن الواجب تعالى، وإن كان المراد بها ما یعمّ العلم والحبّ الذاتیّین فهی متحقّقة فی الواجب تعالى من غیر أن یستلزم نقصاً وحاجة.(1)

259 ـ قوله «سیأتی إن شاء الله بیان...»

ركز الاُستاذ(قدس‌سره) فی بیانه هذا على تعریف الحركة المأثور عن المعلّم الأوّل كأصل موضوع، وهو خلاف ما التزم به فی سائر المباحث من تقدیم ما لا یتوقّف على المتأخّر، وأضاف إلیه أنّ الكمال الثانی مطلوب لنفسه والكمال الأوّل مطلوب لأجل الثانی. ویلاحظ علیه أن المطلوبیّة صفة ذات إضافة، ولا تعقل بدون المضاف، فإذا لم یصحّ اتّصاف الطرف بالطلب لم یصحّ اتّصاف الحركة وغایتها بالمطلوب، وقد أشرنا فی التعلیقة السابقة إلى أنّ الموجود الفاقد للشعور لا یتّصف بالطلب حقیقةً. فغایة ما یستفاد من هذا البیان أنّه إذا كان الكمالان مطلوبین كان الثانی هو المطلوب لنفسه. ومع ذلك فیمكن أن یناقش فیه بأنّ الشخص ربما یزعجه الجلوس فی مكان خاصّ، فیشتاق إلى الخروج عنه فیختار مكاناً آخر ویتحرّك إلیه، فبالنسبة إلى هذا الشخص تكون الحركة مطلوبة لنفسها، ویكون الوصول إلى غایة الحركة مطلوباً بالتبع، فلیتأمّل.

ثمّ إنّ تسمیة الحركة وغایتها كمالاً للمتحرّك إنّما هو باعتبار إمكانهما له، ومعناه أنّه أمر وجودیّ یمكن أن یكون الشیء واجداً له ـ ولو كان ذلك بقیمة فقد ما


1. راجع: الأسفار: ج‌6، ص‌‌358ـ368؛ والقبسات: ص‌‌333ـ342.

یجده بالفعل ـ ، وهذا ما یُشعر به قید الحیثیّة المأخوذ فی التعریف، ولا یستلزم ذلك كونَ المتحرّك فی حال الحركة أو فی حال الوصول إلى الغایة أكملَ وجوداً منه فی حال سكونه، وسیأتی الكلام فیه.

260 ـ قوله «ولما بین الغایة والحركة...»

لمّا استنتج من تعریف الحركة أنّ النسبة بینها وبین غایتها نسبة النقص إلى التمام، فرّع علیه أوّلاً أنّ هذه النسبة تقتضی نوعاً من الاتّحاد بینهما، وثانیاً أنّها تقتضی اتّحاداً بین المتحرّك والغایة، وثالثاً أنّها تقتضى اتّحاداً بین المحرّك والغایة، وأرسلها إرسال المسلّمات، وكأنّه أشار بالتفریع إلى أنّ نفس النسبة والارتباط تقتضی الاتّحاد، ولعلّه عطف على ما ذكره سابقا(1) من أنّ وحدة النسبة تقتضی اتّحاد طرفیها فی ظرف تحقّق النسبة. ویلاحظ علیه مضافاً إلى منع هذا الاقتضاء، أنّ ظرف تحقّق النسبة هو الذهن، ولا یجدی ذلك فی ما هو بصدده. وسیأتی تتّمة الكلام فی المرحلة اللاحقة.

261 ـ قوله «وتطلبه الطبیعة المحرّكة»

قد عرفت أنّ نسبة الطلب والإرادة إلى الطبیعة الفاقدة للشعور مبنیٌّ على المسامحة والتجوّز، ولا یثبت به وجود العلّة الغائیّة لفعلها.

262 ـ قوله «لها وجودات سیّالة تنتهی إلى وجودات ثابتة»

قد أشرنا سابقاً إلى أنّ الحركة بذاتها لا تقتضی وجوداً ثابتاً وراءها، وسیأتی تمام الكلام فی محلّه إن شاء الله تعالى.


1. راجع: الفصل الأوّل من المرحلة الثانیة فی المتن.

263 ـ قوله «والفعل والغایة هناك واحد»

أمّا الغایة بمعنى منتهى الحركة فلا معنى لها فی المجرّدات، وأمّا الغایة بمعنى ما لأجله یصدر الفعل فلا تثبت بهذا البیان، فلا یتبیّن به وجود الغایة بأحد المعنیین لكلّ فعل.

264 ـ قوله «وأمّا قولهم إنّ الغایة قبل الفعل تصوّراً»

وهذه الغایة التی لا توجد فی الطبائع هی العلّة الغائیّة.

265 ـ قوله «فكلام لا یخلو عن مسامحة»

المسامحة هی فی تسمیة الشرط فاعلاً، ولیس ذلك بغریب.

266 ـ قوله «ومن المستحیل أن یكون المعلول علّة لعلّته»

بل من المستحیل أیضاً أن یكون علّة غائیّة لعلّته التی هی الفعل، وإنّما هی غایة له بمعنى منتهى الحركة، فتفطّن.

267 ـ قوله «هی كمالات ثانیة له یستكمل بها»

غیر خفیّ أنّ الاستكمال إنّما یتمّ فی الفاعل المتعلّق بالمادّة، أمّا الفاعل المجرّد التامّ فلیس الفعل ولا غایته كمالاً ثانیاً له،ولا یستكمل بفعله، كیف وهو معطٍ لوجود معلوله، ولا معنى للاستكمال بما هو واجد له، ولیس له كمال ممكن لم یحصل له بعدُ.

268 ـ قوله «فالإرادة بالحقیقة متعلّقة بنفس الفاعل»

لابدّ من تفسیر الإرادة ههنا بالمحبّة، لوضوح أنّ الإرادة بمعناها المصطلح لا تتعلّق بالنفس.

269 ـ قوله «وبالجملة فعلمه تعالى...»

قد عرفت أنّ العلّة الغائیّة هی الحبّ، والعلم شرط لوجوده، فراجع الرقم (258).

270 ـ قوله «بل الإمعان فی البحث...»

قال فی المطارحات: «ویجب علیك أن تعتقد أنّ العلّة الغائیّة وإن كانت منفیّةً عن واجب الوجود لیس بمنفیّ عنه أنّه غایة جمیع الموجودات، وأنّ جمیعها بحسب ما لها من الكمالات طالبة لكمالاتها ومتشبّهة ـ فی تحصیل ذلك الكمال بحسب ما یتصوّر فی حقّها ـ به من جهة ما یكون على كمال لائق بها، وانّ لكلّ نوع من الأنواع المفارقة والأثیریّة والعنصریّة كمالاً مّا وعشقاً إلى ذلك الكمال».(1)

وقال فی الأسفار: «وأمّا الغایة بمعنى كون علمه بنظام الخیر الذی هو عین ذاته داعیاً له إلى إفادة الخیر بالوجه الذی ذكرناه أوّلاً فهو ممّا ساق إلیه الفحص والبرهان ـ إلى أن قال ـ كما أنّ المبدء الأوّل غایة الأشیاء بالمعنى المذكور فهو غایة بمعنى أنّ جمیع الأشیاء طالبة لكمالاتها ومتشبّهة به فی تحصیل ذلك الكمال بحسب ما یتصوّر فی حقّها».(2)

والحاصل أنّ إطلاق الغایة على الله تعالى یكون بمعنیین: أحدهما أنّ ذاته من حیث كونها عین العلم بنظام الخیر علّة غائیّة لإیجاد الأشیاء ـ ولك أن تقول: من حیث كونها عین الحبّ لذاته ولآثار ذاته من جهة خیریّتها ـ.. وثانیهما من حیث إنّ ذاته محبوبة لجمیع الموجودات، فهی علّة غائیة لأفعال جمیع الفواعل.

وإثبات المعنى الأخیر كما ترى یتوقّف على إثبات الحبّ والشعور لجمیع الموجودات حتّى الكائنات المادّیة، ولا سبیل لعقولنا إلى إثبات ذلك وإن ادّعاه أهل


1. راجع: المطارحات: ص‌‌433.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌273؛ وراجع: القبسات: ص‌‌462466؛ والتعلیقات: ص‌‌62.

الكشف وتؤیّده ظواهر كثیر من الآیات الكریمة كقوله عزّ من قائل: «وَإِنْ مِنْ شَیْءٍ إِلاّ یُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِیحَهُمْ»،(1) وقوله:«كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِیحَه»،(2) وقوله: «وَإِنَّ مِنْها لَما یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللّه‏».(3) ویمكن أن یكون إسناد العلم والمحبّة والخشیة إلیها باعتبار صورها الملكوتیّة التی تظهر فی القیامة، والله العالم.

وكیف كان فقد حاول سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) إثبات كونه تعالى غایة الغایات بالمعنى الثانی من طریق أنّ كلَّ غایة فإنّما یتعلّق بها الطلب والإرادة لما فیها من الجهة المطلوبة أی جهة الخیر، وإذا كانت هذه الجهة الراجعة إلى الوجود غیر ذاتیّة لها فلابدّ أن تنتهی إلى ما هو مطلوب وخیر بالذات. وحیث إنّ ذاته المقدّسة هی الخیر المحض، وكلّ ما هو خیر فإنّما استفاد خیریّته منه سبحانه فذاته هی المطلوبة بالذات وغایة الغایات.

فإن كان المراد بهذا البیان وجود الطلب والمحبّة فی جمیع الموجودات حقیقةً فسبیله سبیل بیان الشیخ الإشراقیّ وصدر المتألّهین؛ وإن كان المراد أنّ كلّ ما له علّة غائیّة فی فعله ـ وینحصر ذلك فی ذوی الشعور ـ فلابدّ أن تنتهی غایته إلى الله سبحانه، فله وجهان: أحدهما أنّه لابدّ أن یتعلّق حبّه أوّلاً بذاته سبحانه وعلى ضوء ذلك یتعلّق ثانیاً بسائر الأشیاء بدعوى أنّ ما لا یكون بخیر ذاتاً لا یكون مطلوباً بالأصالة، فهو ممنوع، فقد عرفت أنّ الغایات المتوسّطة قد تكون أخیرة بالنسبة إلى من یقصدها بالأصالة. وثانیهما أنّ الحبّ إنّما یتعلّق بشیء من جهة أنّه خیر، والفاعل إنّما یقصد شیئاً بالذات لما یزعم أنّه خیر بالذات، فالمقصود بالذات هو الخیر بالذات فی نظر الفاعل، فكأنّ من یحبّ غیره سبحانه یخطئ فی التطبیق،


1. سورة الإسراء، الآیة 44.

2. سورة النور، الآیة 41.

3. سورة البقرة، الآیة 74.

فیزعم ما لیس بخیر ذاتیّ خیراً ذاتیّاً فیقصده بالأصالة، ولو كان عارفاً بأنـّه لیس بخیر ذاتاً لم یتعلّق به حبّه بالأصالة، ففی الحقیقة یكون المحبوب بالأصالة هو الله تبارك وتعالى وإن لم یشعر به، فهذا وجه وجیه، رزقنا الله تعالى تلك المعرفة والمحبّة بحقّ من یحبّهم ویحبّونه.

ثمّ إنّه ربما یطلق الغایة والمنتهى على الله تعالى باعتبار أنّه سبحانه هو الآخر الباقی بعد فناء كلّ شیء ورجوع الجمیع إلیه، كمال قال تعالى: «إِنَّ إِلی رَبِّكَ الرُّجْعی»،(1) وقال: «وَأَنَّ إِلی رَبِّكَ الْمُنْتَهی»،(2) وقال: «إِلی رَبِّكَ مُنْتَهاها»(3) وهذا المعنى أعمّ من منتهى الحركة، فإنّ ذلك یختصّ بالمتحرّكات والمتدرّجات، وأمّا هذا المعنى فیشمل المجرّدات باعتبار انتهاء حدودها الوجودیّة وإحاطة وجوده تبارك وتعالى علیها من جمیع الجهات والحیثیّات، فیكون هو الأوّل من جهة البدء وهو الآخر من جهة العود، وذلك فی كلّ شیء بحسبه.(4)

الفصل الثانی عشر

271 ـ قوله «فهذه مبادئ ثلاثة غیر الإرادیّة»

كذا فی النسخة، والصحیح «غیر الإرادة» بحذف یاء النسبة، أو «غیر ارادیّة» بحذف اللام، ویؤیّد الأوّل أنّ تثلیث المبادئ یشعر بكون الإرادة من سنخ الشوق، وهو لا یوافق ما صرّح به سابقا(5) من تغایرهما. وكیف كان فوصف الإرادیّة قد یكون


1. سورة العلق، الآیة 8.

2. سورة النجم، الآیة 42.

3. سورة النازعات، الآیة 44.

4. راجع: القبسات: ص‌‌463466.

5. راجع: الفصل الخامس عشر من المرحلة السادسة من المتن.

باعتبار أنّ الفعل مستند إلى إرادة الفاعل وقصده، فالفعل الجارحیّ المستند إلى الإنسان بما أنّه ذو نفس تتّحد فیها القوى المختلفة یكون إرادیّاً باعتبار أنّ من مبادئه الإرادة، وأمّا باعتبار استناده إلى القوّة العاملة التی تُعَدّ فاعلاً مباشراً له فلا تكون إرادیّة، لأنّ هذه القوّة فاقدة للشعور والقصد. وأمّا الشوق فلیس مستنداً إلى إرادة الإنسان، والأشبه أنّه كیفیّة انفعالیة تحصل فی النفس، وإن صحّ استناده إلى قوّة فاعلیّة فی النفس فصدوره عن تلك القوّة أیضاً لیس إرادیّاً، نعم ربما یكون الشوق إرادیّاً باعتبار تأثیر الإرادة فی مقدّمات حصوله. وأمّا العلم فربما یحصل للإنسان بلا إرادة منه مطلقاً، لكن قد یكون حصوله بسبب التفكّر الإرادیّ، فحینئذ یصحّ عدّه إرادیّاً باعتبار سببه الإرادیّ. وأمّا نفس الإرادة فإنّها وإن لم تكن إرادیّة بمعنى استنادها إلى إرادة اُخرى لكنّها اختیاریّة لصدورها عن رضىً كامن فی النفس، وكذلك الإذعان والتصدیق. هذا بناءً على ما هو الحقّ عندنا من كون الإرادة فعلاً للنفس، وأمّا بناءً على كونها من قبیل الشوق فسبیلها سبیله.

والحاصل أنّ إطلاق القول بأنّ هذه المبادئ كلّها غیر إرادیّة لا یستقیم إلاّ أن یكون المراد أنّ صدور كلّ واحد من هذه الاُمور من مبدئه القریب غیر منوط بسبق إرادة علیه، فتبصّر.

272 ـ قوله «فغایتها ما تنتهی إلیه الحركة»

هذا الكلام مشعر بأنّ الفاعل الطبیعیّ لا غایة له بمعنى العلّة الغائیّة، وأمّا عدّ منتهى الحركة غایةً للقوّة العلمیّة والشوقیّة فباعتبار انطباق متعلّق العلم والشوق علیه، فالعلّة الغائیّة للفعل بالحقیقة هی حبّ الفاعل لكماله الذی لا ینفكّ عن العلم به، ویستتبع ذلك شوقاً إلى ذلك الكمال الحقیقیّ أو المظنون إذا كان الفاعل فاقداً له، كما فی ذوی النفوس المتعلّة بالمادّة.

273 ـ قوله «ویسمَّى جزافاً»

التسمیة باعتبار فقد التعقّل فی من كان من شأنه ذلك. قال فی الشفاء: «فإن كان التخیّل، وحده هو المبدء للشوق سمّی ذلك الفعل جزافاً ولم یسمَّ عبثاً».(1) وعن الفارابیّ: «إنّ غایة الحركة إمّا أن یكون بحسب العقل أو بحسب التخیّل، فإن كان بحسب العقل كان الواجب المقصود یسمَّى الغایةَ بالحقیقة، وإن كان بحسب التخیّل كان إمّا مطابقاً لما یتخیّل فیسمَّى عبثاً، وإمّا مخالفاً لِما یتخیّل فیسمَّى جزافاً».(2) والأمر فی الاصطلاح سهل.

274 ـ قوله «ویسمّى الفعل حین ذاك باطلاً»

انقطاع الحركة لا یوجب انتفاء غایتها لأنّ نقطة انقطاعها هی غایتها، وإنّما یسمّى الفعل باطلاً باعتبار عدم وصوله إلى غایة القوّة الشوقیّة.(3)

275 ـ قوله «بل نفس العلم یفعل الشوق»

عدّ العلم علّةً للشوق إنّما یصحّ باعتبار توقّفه على العلم، ویؤیّده عدّهم القوّة الشوقیّة مبدءاً برأسها.

الفصل الثالث عشر

276 ـ قوله «فی نفی الاتّفاق»

اعلم أنّه قد یراد بالاتّفاق نفی السبب الفاعلیّ لأمر، ویلزمه نفی السبب الغائیّ أیضاً؛


1. راجع: الفصل الخامس من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء.

2. راجع: تعلیقة صدر المتألّهین على إلهیّات الشفاء: ص‌‌539540.

3. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌536.

وقد یراد به نفی إیجاب الفاعل، فیكون حصول المعلول عنه اتّفاقیّاً من غیر ضرورة؛ وقد یراد به نفی السبب الغائیّ عمّن یكون من شأنه أن یكون له غایة مقصودة مع قبول السبب الفاعلیّ وإیجابه للفعل؛ وقد یراد به أمر حقیقیّ هو سبب بعض الحوادث، وقد حكى الشیخ عن بعض عبدة الأوثان أنّهم اتّخذوا صنماً باسم البخت للعبادة!(1)

ثمّ إنّ الشیخ قام بتحلیل لمفهوم الاتّفاق فی كلام طویل أخذ عنه مَن بعدَه،(2) وحاصله أنّ مفهوم الاتّفاق فی لغتنا هو وقوع أمر أقلّیّ الوقوع أو متساوی الوقوع واللاوقوع ولو بحسب اعتقاد القائل، وأنّ السبب الفاعلیّ یتّصف بالاتّفاقیّ إذا كان تأثیره غیر دائمیّ ولا أكثریّ، كما یتّصف به الغایة إذا كانت كذلك. ثمّ قام بتعلیل لعدم صدور الفعل عن الفاعل فی موارد نادرة، واستنتج أنّ فعله معارَض بتأثیر فاعل آخر، فنبسة الفعل الأكثریّ إلیه لیس نسبةَ المعلول إلى علّته التامّة، لأنّ من أجزائها عدمَ المعارِض. وأمّا الفعل النادر فلیس مستنداً إلى ما یُظنّ أنّه فاعل أقلّیّ التأثیر، بل فاعله الحقیقیّ أمر آخَرُ یكون الفعل بالنسبة إلیه دائمیّاً أو أكثریّاً، وكذلك الفاعل المتساوی التأثیر واللاتأثیر، فنسبة الفعل إلى الفاعل النادر التأثیر أو متساوی التأثیر واللاتأثیر نسبةٌ إلى سبب بالعَرض، كما أنّ الغایة النادرة أو المساویة كذلك تكون غایةً بالعَرض.

فتحصّل أنّ الاتّفاق إنّما یصدق بمقایسة الفعل إلى سبب فاعلیّ أو غائیّ بالعَرض من حیث كونه أقلّیّاً أو متساویاً، فلیس الاتّفاق أمراً عینیّاً یكون علّةً لأمر أو معلوله، وإنّما یصحّ قبول وقوع الاتّفاق على هذا الوجه الذی قوامه بالمقایسة. ولعلّ من أنكر وقوع الاتّفاق مطلقاً ـ كما حكى الشیخ عن بعضهم(3) ـ لم ینكره بهذا المعنى.


1. راجع: الفصل الثالث عشر من المقالة الاولى من طبیعیّات الشفاء؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌531.

2. راجع: التحصیل: ص‌‌535؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌255؛ والمقاومات، ص‌‌177؛ والمطارحات: ص‌‌383ـ384.

3. راجع: الفصل الثالث عشر والرابع عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء.

277 ـ قوله «وقد نسب إلى ذیمقراطیس...»

نُسب القول بالاتّفاق إجمالاً إلى ذیمقراطیس وأتباعه وإلى أنباذقلس وشیعته، أمّا الأوّل فقد نقل عنه القول بأنّ العالم تكوَّن من أجرام صغار متحرّكة اصطدم بعضها ببعض فحصلت من اجتماعها الأرض والسماوات، فذاك الاجتماع والتركّب لیس معلولاً لسبب خاصّ ولا لغایة مقصودة، لكنّ الاُمور الجزئیّة ـ على حدّ التعبیر المأثور عنه ـ من مثل الحیوانات والنباتات لم تتكوّن بالاتّفاق، ولكلّ واحد منها طبیعةٌ مؤثّرة فی أفعالها الخاصّة بها.

وتنقدح حول ما نقل عنه سؤالات: أحدها أنّ نفس الذرّات هل هی معلولة لفاعل إلهیّ أو لا؟ وثانیها أنّها هل وُجدت لغایة أو لا؟ وثالثها أنّ حركاتها التی أدّت إلى اجتماعها هل كانت باقتضاء من ذاتها أو لا؟ ورابعها أنّ طبائع المركّبات والموالید هل لها فاعل إلهیّ أو لا؟ وخامسها أنّها هل وجُدت لغایة أو لا؟ وسادسها أنّها هل تكون لأفاعیلها علل غائیّة أو لا؟ ولسنا على یقین ممّا كان ‌یجیب به عن هذه السؤالات، وإنّما حاصل ما نقل عنه أنّ تكوُّن الأجسام الأوّلیّة كان اتّفاقیّاً وأمّا آثار الطبائع فلیست اتّفاقیّة، فهو قائل بسببیّتها الفاعلیّة لأفعالها المنسوبة إلیها.

وكیف كان فلم تُنْقَل عنه حجّة على ما ذهب إلیه من الاتّفاق، وقد تصدّى الشیخ لإبطال رأیه بأنّ الاتّفاق لیس إلاّ غایةً عَرَضیّةً لأمر طبیعیّ أو إرادیّ، بل أو قسریّ ـ والقسریّ إنّما ینتهی إلى طبیعة أو إرادة، فإنّه لا یستمرّ قسر على قسر إلى غیر النهایة ـ فتكون الطبیعة أو الإرادة فی ذاتهما أقدم من الاتّفاق، فیكون السبب الأوّل للعالم طبیعةً أو إرادة. ثمّ تعجّب منه كیف جعل الأمر الدائم ببخت أو اتّفاق، وجعل الاُمور الجزئیّة لغایة!(1)

فكلامه هذا كما ترى مركّز على إثبات سبق التأثیر الطبیعیّ أو الإرادیّ على


1. راجع: نفس المصدر.

الاتّفاق، ولعلّه استفاد من كلامه أنّ جوابه على السؤالات الاُولى كان بالنفی، وإلاّ فیمكن أن یكون مراده نفی السبب الذاتیّ لاجتماع الذّرات بما هو اجتماع، فیكون ذلك نظیر تلاقی جسمین أو شخصین إذا كان أحدهما أو كلاهما متحرّكاً، حیث لا یكون للتلاقی سبب إلاّ تحرّكهما أو تحرّك أحدهما على وجه خاصّ. وبعبارة اُخرى: إنّ التلاقی كالاجتماع یكون أمراً انتزاعیّاً فلیس له سبب خاصّ وراء السبب الذی یكون لمنشأ انتزاعه. بل یمكن أن یؤوّل كلامه بما لا ینافی وجود الغایة للفاعل الإلهیّ المسخّر بالنسبة إلى تكوّن الأجسام أیضاً. نعم، كلامه لا یساعد القول بكون الاجتماع غایة مقصودة لطبیعة الذّرات، ولیس هناك ما یبطله، فتدبّر جیّداً.

وأمّا السؤال عن الفرق بین الأجسام الأوّلیّة والحیوان والنبات، فكان یمكنه أن یجیب عنه بأنّ تلك الأجسام لیس لها هویّة زائدة على الذرّات المجتمعة، فلیس یجب إسنادها إلى سبب فاعلیّ أو غائیّ زائد على ما كان للذرّات من السبب، بخلاف النبات والحیوان ممّا یكون له صورة زائدة على الموادّ المجتمعة فیجب نسبة صورها إلى سبب غیر ما كان لموادّها من النسبة، كما أنّ أفعالها تستند إلى صورها الزائدة على موادّها.

وأمّا أنباذقلس وشیعته فقد نَسب الشیخ إلیهم القولَ بأنّ الكائنات تكوّنت عن المبادئ الاُسطقسیّة(1) بالاتّفاق (دون نفس الاُسطقسات) فما اتّفق أن كان هیئة اجتماعه على نمط یصلح للبقاء والنسل بقی ونَسَل، وما اتّفق أن لم یكن كذلك لم ینسل.(2) ثمّ فسّر كلامهم بأنّهم خلطوا الاتّفاق بالضرورة؛ فجعلوا حصول المادّة بالاتّفاق، وتصوُّرَها بصورها بالضرورة لا لغایة.(3)


1. الاُسطقس لفظة یونانیة معناها الأبسط، والمراد به آخر ما ینحلّ إلیه المركّب، وباعتبار أنّه یبتدئ منه التركیب یسمَّى عنصراً.

2. راجع: الفصل الثالث عشر والرابع عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء.

3. راجع: الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من نفس المصدر.

وحول كلام هؤلاء أیضاً مواضع للسؤال نظیر ما ذكرنا حول كلام ذیمقراطیس. وجدیر بالذكر أنّ الشیخ الإشراقیَّ بمقتضى حسن ظنّه بالفلاسفة الأقدمین فسّر قولهم بالاتّفاق بأنّ مرادهم أنّ الاُمور اللاحقة بالمهیّات لیست لذاتها بل لغیرها، ووَصفِ أكثر ما نسب إلى أنباذقلس بالافتراء والاختلاق.(1)

وكیف كان فلم یتحقّق ممّن یعتدّ بقوله من الفلاسفة القولُ بالاتّفاق بمعنى نفی السبب الفاعلیّ، أو نفی الإیجاب والضرورة، أو نفی السبب الغائیّ مطلقاً حتّى ممّن شأنه أن یكون له ذلك، والمتیقّن ممّا نقل عن ذیمقراطیس نفی السبب الفاعلیّ لحصول الهیئات الاجتماعیّة للذرّات، ونفی السبب الغائیّ لحركات الذرّات أنفسها، كما أنّ المتیقّن ممّا نقل عن أنباذقلس نفی السبب الغائیّ عن أفعال الطبائع فی الجملة. حتّى أنّ المادّیّین من فلاسفة المغرب لا ینكرون السبب الفاعلیّ المادّیّ، وإنّما ینكرون السبب الإلهیّ والسبب الغائی للعالم، كما ینكرون السبب الغائیَّ فی غیر أفعال ذوی الشعور. نعم، نُقل عن بعض متأخّریهم التشكّك فی أصل العلّیة كقانون كلّیّ للوجود، وفی كون العلّة موجبة لحصول المعلول، ولیس ذلك إلاّ من سخافة آرائهم فی الفلسفة، بل هم المنكرون لأساسها.

278 ـ قوله «وقد احتجّ على ذلك...»

قد عرفت أنّ حاصل ما نقل عن أنباذقلس ومَن تبعَه هو نفی الغایة عن الكائنات، وقد حكی عنهم عدّة حجج ذكر أهمَّها فی المتن.(2) لكن یحتمل فی معنى نفی الغایة عنها وجوه:


1. راجع: المقاومات: ص‌‌178؛ والمطارحات: ص432.

2. راجع: الفصل الرابع عشر من المقالة الاُولى من طبیعیّات الشفاء؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌254.

أحدها نفی السبب الغائیّ عنها مطلقاً حتّى لمبادئها العالیة وللواجب تبارك وتعالى، وهو مردود بعد إثبات الحكمة له تعالى وأنّ جمیع أفعاله سواء كانت بالمباشرة أو بالتسبیب والتسخیر مؤدّیة إلى غایات صالحة لنظام العالم، وأنّ ذلك النظام یكون على الوجه الأحسن والأتقن، وأنّ تحقُّقه مطلوب له سبحانه على وجه یلیق بساحة قدسه جلّ وعزّ.

ثانیها نفی العلّة الغائیة عن نفس الكائنات بالمعنى الذی یستلزم الشعور والقصد. وهذا الوجه لا سبیل لنا إلى إبطاله وإن فُرضت جمیع حججهم مخدوشة، لأنّ المفروض أنّ الفاعل الطبیعیّ لا قصد له ولا شعور، فكیف یمكن إثبات ما یحتاج إلیهما له؟ ولعلّ مرادهم بنفی الرویّة عن الطبیعة (فی الحجّة الاُولى) ما یعمّ نفی الشعور أیضاً، فلا یرد علیها ما ذكروه من الجواب. وأمّا إثبات الجهة لحركات الطبائع وتسمیتها میلاً أو قصداً طبیعیّاً فلا یجدی كما عرفت سابقاً،(1) اللّهمّ إلاّ أن یثبت لها نوع من الشعور والقصد حقیقةً، فتدخل بذلك فی الفواعل الإرادیّة.

ثالثها نفی ضرورة ترتّب الغایة ـ بمعنى منتهى الحركة ـ على أفعال الطبائع، فی مقابل من یثبت لها جهة خاصّة بحیث تؤدّی حركاتها إلى غایات معیّنة، فلا ینبت الشعیر البُرَّ ولا الزیتون الدّر. وهذا الوجه أیضاً مردود ویرجع فی الحقیقة إلى نفی الضرورة عن الغایات التی هی معلولات للأفعال ونفی الإیجاب عن عللها، مع أنّ مورد هذه العلاقة الضروریّة ممّا یثبت بالتجربة كما أن جمیع الأسباب المادّیة تعرف كذلك، ولا ینافی ضرورتها اشتراط تأثیرها بشروط خاصّة. ولهذا قال سیّدنا الاُستاذ(قدس‌سره) فی آخر كلامه: «لو جاز لنا أن نشكَّ فی ارتباط هذه الغایات بفواعلها لجاز لنا أن نشكَّ فی ارتباط الفعل بالفاعل»، فافهم.


1. راجع: الرقم (258).

الفصل الرابع عشر

279 ـ قوله «فی العلّة المادّیة والصوریة»

ویسمّى المادّیة بالعنصریّة أیضاً.(1) ولمّا كانت لفظتا «المادیّة» و«الصوریّة» منسوبتین إلى المادّة والصورة ابتدأ بالإشارة ‏إلى مفهومهما وإثبات وجودهما، وقد مرّ بیان ذلك فى المرحلة السادسة، ثمّ أشار إلى وجه علّیتهما، وهو كون كلّ واحدة منهما جزءاً للمركّب، فوجود المركب یتوقّف علیهما، وكلُّ ما یتوقّف علیه شیء فهو علّة لذلك الشیء. لكن وجودهما فی ضمن الكلّ لیس وجوداً على حدة حتّى یعتبرا شیئین مغایرین للكلّ ویلاحظ توقُّف الكلّ علیهما وتأثیرهما فی وجوده،(2) إلاّ أن یتوسّع فی مفهوم التوقّف، والأمر فی الاصطلاح سهل.

ثمّ إنّ المركّب یتصوّر على وجوه:

أحدها أن یتركّب أمر بالقوّة مع ما بالفعل كتركّب الجسم من الهیولى والصورة على رأی المشّائین ومن حذا حذوهم، وهو رهن إثبات الهیولى الاُولى كقوّة جوهریّة محضة لا فعلیّة لها فی ذاتها، وقد عرفت ما فیه من الكلام، فراجع الرقم (132 ـ 137).

ثانیها أن یتركّب أمران بالفعل یكون وجود أحدهما للآخر، بحیث لا یمكن أن یوجد بدونه، وبعبارة اُخرى یكون وجود أحدهما رابطیّاً بالنسبة إلى الآخر، فإن كان أحدهما عَرَضاً رجع الأمر إلى اتّحاد الجوهر بالعرض فی الوجود العینىّ، وإن كان كلاهما جوهرین رجع إلى اتّحاد الفعلیّات المتراكبة، وهو مقتضى إنكار الهیولى التی لا فعلیّة لها.


1. راجع: الفصل الرابع من المقالة السادسة من إلهیّات الشفاء؛ والمقاومات: ص‌‌176؛ والمطارحات: ص‌‌378؛ والأسفار: ج‌2، ص‌‌229؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌517.

2. راجع: القبسات: ص‌‌5456.

والإشكال باستلزام ذلك كون شیء واحد شیئین لإن شیئیّة الشیء بصورته وفعلیّته، یندفع، بأنّ الاتّحاد غیر الوحدة. والحقّ أنّ اجتماع الفعلیّتین أو أكثر إنّما یمتنع فی فرضین: أحدهما أن یفرض صیرورتهما واحداً بالحقیقة، وثانیهما أن تكون الفعلیّتان متزاحمتین متدافعتین، وذلك فی الفعلیّات العرْضیة، وأمّا الفعلیّات المتراكبة فلا تزاحم ولا تدافع بینها كما لا تدافع بین العناصر والنبات، وبین البدن والنفس. ولا دلیل على انحصار الاتّحاد فی ما یكون أحدهما قوّة محضة، وأن ضنّوا عن تسمیة تراكب الفعلیّات اتّحاداً فلا نشاحّ فیها فلیسّموه انضماماً.

ثالثها أن تجتمع اُمور موجودة بالفعل من غیر حاجة لبعضها إلى بعض ثمّ یحصل فیها أمر آخر به هویّة ذلك الشیء المركّب، كما تحصل صورة النبات فی موادّ متكثّرة مجتمعة، وتكون وحدتها باعتبار وحدة الصورة المتعلّة بها.

رابعها أن تجتمع اُمور موجودة بالفعل كذلك وتتركّب بالتفاعل من غیر أن یحصل فیها صورة اُخرى كما ربما یقال عن المركّبات الكیمیاویّة، ولا وجه لتسمیتها واحداً بالحقیقة، وإن جاز وصفها بالاتّحاد بوجه فی مقابل المختلطَینِ اللَّذین لا تفاعل بینهما.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ تركّب الشیء من العلّة المادیّة والعلّة الصوریّة لا یتصوّر فی الفرض الأخیر؛ وأمّا الفرض الأوّل فیختصّ بمن یثبت الهیولى كقوّة محضة؛ وأمّا الفرض الثانی فیصحّ فیه عدّ الموادّ المجتمعة عللاً مادّیّة والصورة الحاصلة فیها علّة صوریّة للمجموع؛ وأمّا الفرض الثالث فیصحّ فیه عدّ الجوهر المستقلّ علّة مادیّة والجوهر الحالّ فیه علّة صوریّة. وأمّا إذا كان هناك سلسلة من الصور المتراكبة فالجوهر المحلّ علّة مادیّة فقط، والصورة الأخیرة علّة صوریّة فقط، وأمّا المتوسّطات فكلُّ واحدة منها صورة لما دونه، والمجموع منها ومن مادّتها مادّة لما فوقه. وقد ظهر بذلك أنّ المادّة معنى ذو إضافة كالصورة بالمعنى المبحوث عنه ههنا.

280 ـ قوله «وقد حصر جمع من الطبیعیّین...»

المراد بالطبیعیّین مطلق المادّیّین المنكرین لماوراء الطبیعة لا خصوص القائلین بالطبائع، كما أنّ مرادهم بالعلل المادّیة ما یشمل الفواعل الطبیعیّة لا خصوص الهیولى الاُولى، فكیف یُعقل حصرهم العلل فی ما لا یقولون بوجوده؟! فهذا الحصر یمكن أن یراد به أمران: أحدهما نفی الفاعل الإلهیّ، وواضح أنّه لا ربط لهذا المعنى بهذا المبحث. وثانیهما إنكار الصور الجوهریّة التی یثبتها المشّاؤون ومن یجری مجراهم، فإنّهم لا یقولون بحدوث صور جوهریّة فی المركّبات، وإنّما یقولون بحدوث أعراض فیها كما یُحكىٰ عن الأقدمین، وكما هو مقتضى الأمثلة المأثورة عن أوائل المشّائین كصورة السریر ونحوها، وإن حمله المتأخّرون على المسامحة فی المثال. فیؤول معنى حصرهم العلل فی العلل المادّیة إلى أنّ حدوث أمر مادّی لا یعنی سوى حدوث أعراض فی الموادّ بسبب تفاعل بعضها مع بعض، أو بسبب حركتها الذاتیّة ـ على مذهب المادّیین الجدلیّین ـ .

وعلى هذا فالذی یرّد مقالتهم هو إثبات الصور الجوهریّة ثمّ إثبات أنّ الفاعل المادّی لیس من شأنه إعطاء الصور، وإنّما الذی یحصل من تفاعل الموادّ هو تغیّر الأعراض، كما أنّ وجود نفس الموادّ یحتاج إلى علّة مفیضة وراء الطبیعة.

ثمّ إنّ الحجّة الاُولى مبتنیة على قبول المادّة كقوّة محضة، وهو ممنوع، مضافاً إلى أنّها لا تردّ مقالة المادّیین. وكذلك الحجّة الثانیة مع ما فیها من الخلط بین الإمكان الاستعدادیّ الذى یقابل الفعلیّة ویرتفع بتحقّقها والإمكان الذی یقابل الوجوب والامتناع ویلازم المهیّة. وأمّا الحجّة الثالثة فإنّها مبتنیة على تعمیم قاعدة «الواحد» للفواعل المادّیة، ومع ذلك فیمكن أن یقال: إنّ سبیل المادّة فی تأثیراتها الكثیرة هو سبیل الشمس فی آثارها المتعدّدة. والحلّ أنّ المادّة بوحدها لا تكون مؤثّرة فی آثار متعدّدة، بل العلّة فی كلّ واحد منها

مركّبة من اُمور كثیرة منها شروط القابل وارتفاع الموانع، كما مرّ فی جواب شبهات القائلین بالاتّفاق.

فإن قلت: إنّ بعض المادّیین یقولون بوحدة طبیعة المادّة، فلا یعقل حصول اختلاف فی أجزائها حتّى تحصل فواعل وقوابل مختلفة.

قلت: القول بوحدة طبیعة المادّة لا یمنعهم من قولهم بحصول الاختلاف فی أعراض الذرّات بالاتّصالات والانفصالات الاتّفاقیّة كما فی مذهب ذیمقراطیس. فیجب إثبات أنّ الحركة الحاصلة من الأشیاء المتّفقة الحقیقة لا تكون إلاّ على نهج واحد وذات جهة واحدة، فلا یحصل تصادم بین تلك الذرّات، فلیتأمّل.

281 ـ قوله «واعلم أنّ الصورة المحصّلة للمادّة...»

هذا الكلام مبنیٌّ على ما أشرنا ألیه من نفیهم تعدّد الفعلیّات عن مركّب حقیقىّ، فحیث لم یوجد فی مركّب إلاّ فعلیّة واحدة لم تكن الآثار إلاّ منتسبة إلى تلك الفعلیّة الواحدة، لكن قد عرفت أنّه لا دلیل على نفی الفعلیّات المتراكبة. فهل ترى أنّ البدن مثلاً یفقد فعلیّتَه بتعلّق النفس وبه تملك النفسُ آثاره التی كانت له ـ على حد التعبیر الوارد فی المتن ـ ثمّ بعد الموت وانقطاع تعلّق النفس به تحدث له فعلیّةٌ جدیدةٌ تنتسب إلیها نفس تلك الآثار؟!(1)

282 ـ قوله «ولولا ذلك لم یكن التركیب حقیقیّاً»

قد عرفت أنّ التركیب الحقیقیّ یحصل باتّحاد أمرین یكون أحدهما رابطیّاً بالنسبة إلى الآخر كالصور المتراكبة، كما أنّه یحصل باتّحاد الموادّ فی ظلّ صورة واحدة تتعلّق بها جمیعاً، بل یمكن أن یعدّ تركّب الموادّ الكیمیاویّة بالتفاعل أیضاً تركیبا


1. راجع: المطارحات: ص‌‌367.

حقیقیّاً بالنظر إلى اقتضاء تلك المركّبات التلازم بین عناصرها وإلى اشتراكها فی التأثیر، وإن لم یصدق علیها الواحد الحقیقیّ، مادام لم یثبت حدوث صورة جدیدة فیها فیرجع إلى الفرض السابق.

الفصل الخامس عشر

283 ـ قوله «العلل الجسمانیّة متناهیة أثراً»

ذكروا أنّ القوّة الجسمانیّة كأیّة قوّة لا تتّصف فی نفسها بالشدّة والضعف، فاتّصافها بهما إنّما هو بأحد الاعتبارات الثلاث: إمّا باعتبار سرعة الفعل وبُطئه مع وحدة المسافة، فالقوّة التیّ تحرّك السهم إلى هدف معیّن فی زمان أقلَّ تُعدّ أشدَّ؛ وإمّا باعتبار زمان بقاء الفعل مع عدم اعتبار وحدة المسافة، فالقوّة التی ترمی سهماً یبقى فی الجوّ أكثرَ من سهم آخر تعدّ أشدَّ منه؛ وإمّا باعتبار عدّة الفعل، فالرامی الذی یقوى على رمَیات أكثر یعدّ أقوى. فلا تناهی القوّة الجسمانیّة إمّا أن یكون باعتبار الشدّة أی سرعة الفعل، أو باعتبار المدّة أی زمان بقاء الفعل، أو باعتبار عدّة الفعل.(1)

ویلاحظ علیه أوّلا أنّه بناءً على التشكیك فی الوجود تتّصف القوّة بحسب مرتبة وجودها بالشدّة والضعف، وإنّما تُعرف تلك المرتبة بمعرفة الآثار، والإثبات غیر الثبوت. وثانیا أنّ الاعتبارین الأوّلین متلازمان، لأنّ السهم الذی یقطع مسافة معیّنة فی زمان أقصر هو بعینه الذی یقطع مسافة أطول فی زمان معیّن ویبقى أكثر فی الجوّ، فیرجع التفاوت إلى السرعة والكثرة.

ثمّ إنّ الاستدلال على تناهی القوّة الجسمانیّة من حیث سرعة الفعل سهل، لأنّه


1. راجع: الفصل العاشر من المقالة الثالثة من الفنّ الأوّل من طبیعیّات الشفاء؛ والتحصیل: ص‌‌603؛ وراجع: النمط السادس من شرح الإشارات؛ وراجع: المسألة الرابعة من الفصل الثالث من الشوارق؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌221.

كلّما ازداد السرعة انتقص الزمان، ففرض لا تناهیها یستلزم وقوعه بلا زمان، مع أنّ فعل الفاعل الجسمانیّ هو الحركة، والزمان لازم لها. لكنّه یتوقّف على إثبات انحصار الفعل الجسمانیّ فی الحركة، فتبصّر. وأمّا تناهی أعداد الفعل الصادر من القوّة الجسمانیّة فذكروا له بیاناً طویلاً حاصله أنّ القوّة الجسمانیّة تتناسب مع حجم الجسم، فمع انتصاف الجسم تنتصف تلك القوّة وهكذا، فلا محالة یكون عدد الأفعال الصادرة عن الجزء أقلَّ من عدد الأفعال الصادرة عن الكلّ بنسبة ما یكون الجزء أصغر، فیكون عدد أفعال الجزء متناهیاً، فكذلك أفعال الكلّ لزیادته على الجزء بنسبة متناهیة. وبنفس البیان یثبت تناهی القوّة الجسمانیّة مدّةً أیضاً.(1)

وقد اُوردتْ حوله شكوك وأجابوا عنها بوجوه لا نطیل بذكرها. وهناك شبهتان اُخریان: إحداهما التشكّك فی تناهی الأبعاد، فغایة ما یثبت بهذا البیان هو تناهی القوّة الجسمانیّة. فی الأجسام المتناهیة، وأمّا لو فُرض العالم الجسمانیُّ غیرَ متناه فلا تجری فیه هذه الحجة. وثانیتهما التشكّك فی النسبة بین الجزء والكلّ فی اللامتناهی، فلقائل أن یقول إنّ النسبة المذكورة إنّما هی فی الاُمور المتناهیة، وأمّا اللامتناهی فلیس له مقدار، ولا نسبة مقداریّة بینه وبین أجزائه حتّى یقال إنّ نصفه مثلاً أقّلّ من الكلّ بنسبة متناهیة.

ثمّ إنّه یشكل علیهم الجمع بین هذه القاعدة والقول بلا تناهی حركات الأفلاك، ولا یجدی إسناد قوّتها اللامتناهیة على التحریك إلى المفارقات، لأنّ الكلام فی التحریك الذی هو من قبیل فعل الفاعل الطبیعیّ أو المتعلّق بالمادّة، ولكن إشكال النقش یرتفع بانتفاء العرش.

وأمّا الاستدلال لتناهی آثار القوى الجسمانیّة بأنّها متحرّكة بحركة جوهریّة، وكل


1. راجع: الفصل العاشر من الثالثة الأوّل من طبیعیّات الشفا؛ والتحصیل: ص‌‌601605؛ والأسفار: ج‌3، ص‌‌232ـ243؛ والمباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌501507؛ وراجع: التلویحات: ص‌‌59.

جزء منها محدود بحدّین عدمیّین، فیكون تأثیره لا محالة محدوداً أیضاً، فیلاحظ علیه أنّ غایة ما یثبت به تناهی آثار كلّ جزء من تلك الحركة الجوهریّة شدةً ومدّةً، وأمّا تناهیها عدداً فی زمان واحد فهذا البیان قاصر عن إثباته. أضف إلى ذلك أنّ الحركة الواحدة لا جزء لها بالفعل، ولا یصحّ إسناد الآثار الفعلیّة إلى ما وجوده بالقوّة، وأمّا الكلّ فیبقى السؤال عن تناهیه، فتدبّر جیّداً.

284 ـ قوله «وأیضاً العلل الجسمانیّة...»

هذه الحجّة مبتنیة على مسألة اُخرى هی أن القوى الجسمانیّة لا تؤثّر إلاّ بمشاركة الوضع، وقد استدلّ لها فی الشوارق والأسفار بمثل ما ذكره فی المتن، وللإمام الرازیّ بیان فی هذا المقام منقول فیهما،(1) وحاصله أنّ اختلاف تأثیر القوى الجسمانیّة بقرب المادّة المنفعلة وبُعدها دلیل على اشتراط تأثیرها بحصول نسبة مكانیّة خاصّة بین الفاعل والمنفعل، ویعبّر عنه بأنّ تلك القوى لا تؤثّر إلاّ بمشاركة المادّة والوضع. واستنتج منه عدم تأثیر الأجسام فی المجرّدات ولا فی إیجاد الجسم أو الهیولى أو الصورة.(2)

وغیر خفیّ أنّ المراد بالوضع ههنا غیر ما یعدّ من المقولات وغیر الوضع بمعنى كون الشیء قابلاً للإشارة الحسیّة، بل بمعنى نسبة الشیء إلى ما یسامته. قال الشیخ فی التعلیقات: «الوضع نسبة الشیء فی حیّزه الذی هو فیه إلى ما یسامته أو یجاوره أو یكون منه بحال».(3)

وأمّا البیان الأوّل فیلاحظ علیه أنّ احتیاج القوّة الجسمانیّة إلى مادّتها فی التأثیر


1. راجع: المسألة الرابعة من الفصل الثالث من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌377ـ380؛ وج‌3، ص‌‌101.

2. راجع: المباحث المشرقیة: ج‌1، ص‌‌500؛ وراجع: التحصیل: ص‌‌341.

3. راجع: التعلیقات: ص‌‌107.

لیس هو بمعنى وجود وضع بینها وبین المنفعل ولا مستلزماً له استلزاماً بیّناً. وأمّا البیان الثانی فیلاحظ علیه مضافاً إلى ابتنائه على استقراء ناقص أنّه لا یثبت عدم إمكان صدور سائر الصور غیر الصورة الجسمیّة عن الجسم، ولا یثبت انحصار تأثیر القوى الجسمانیّة فی تغییر الأعراض.(1) وأمّا الاستدلال بهذه القاعدة للمسألة المبحوث عنها وهی تناهی آثار القوى الجسمانیّة فلا یتمّ لإثبات جمیع صورها، فلا یثبت بها مثلاً تناهیها مدّةً، ولا عدّةً مترتبّة فی طول الزمان، إلاّ أن یثبت تضعّف القوّة فی طول الزمان بالتأثیر، وهو على ذمّة العلوم الطبیعیّة.


1. راجع: فی ما یتعلّق بهذا المبحث (عدم صدور الجسم عن الجسم) النمط السادس من الإشارات؛ والتحصیل: ص‌‌521؛ والتلویحات: ص‌‌61؛ والمطارحات: ص‌‌445449؛ والاسفار: ج5، ص146.

آدرس: قم - بلوار محمدامين(ص) - بلوار جمهوری اسلامی - مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمينی(ره) پست الكترونيك: info@mesbahyazdi.org