قال علي عليه‌السلام : إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا؛ امير مومنان عليه‌السلام مي‌فرمايند: همانا براي شما بهايي جز بهشت نيست، پس به کمتر از آن نفروشيد. (نهج‌البلاغه، حکمت456)

 

المرحلة الرابعة

51 قوله «والمقصود بالذات فيها بيان انقسام الموجود إلى الواجب والممكن»

وهو اللائق بالفلسفة الباحثة عن أحوال «الموجود» فالبحث عن الممتنع استطراديّ لعدم اتّصاف الموجود به وانقسامه إليه. والواجب والممكن عنوانان مأخوذان من كيفيّة نسبة الوجود إلى الشيء. وبعبارة اُخرى: عنوان «واجب الوجود» مأخوذ من قضية يكون الذات الإلهيّة فيها موضوعاً ويحمل عليها الوجود بحمل الاشتقاق والنسبة الحكميّة متّصفة بالضرورة (الوجوب) وكذا عنوان الممكن مأخوذ من قضيّة يكون موضوعها المهيّة ومحمولها الوجود كذلك والنسبة الحكميّة متّصفة بالإمكان. لكن يتصوّر للهليّة البسيطة شقّ ثالث وهو أن يكون سلب الوجود فيها ضروريّاً، وبه تتمّ الأقسام بعد الالتفات إلى بطلان فرض اجتماع ضرورة الوجود وضرورة العدم لشيء واحد.

فهذه الاُمور الثلاثة (الوجوب، الإمكان، الامتناع أو ضرورة السلب) هي موادُّ القضايا بمعنى أنّها كيفيّات للنسب الحكميّة في نفس الأمر، ويكون محلّ البحث عنها هو علم المنطق، وأمّا الفيلسوف فيستعير قسماً خاصّاً منها ـ وهو الذي يختصّ بالهليات البسيطة ـ لما يتعلّق به غرضه.

وهذا البيان يتضمّن الاعتراف بوجود النسبة في الهليّات البسيطة(1) أيضاً، فتبصّر.


1. راجع: تعليقة السبزواريّ على الأسفار: ج‌1، ص‌157.

وزعم صاحب المواقف أنّ هذه الموادّ المبحوث عنها في الفلسفة هي غير ما يبحث عنها في المنطق، فراجع.(1)

ثمّ إنّ حمل الوجود على شيء واعتبار كيفيّة نسبته إليه وتقسيم الموجود بهذا الاعتبار مبنيٌ علىكونالمهيّةأعرفعندالعقل،حيث يحلّل المعلوم إلى مهيّة ووجود في شكل هليّة بسيطة كما أشرنا إليه في بحث أصالة الوجود (الرقم 10) واعتبار حال المهيّة بالقياس إلى الوجود والعدم ـ كما في كلام صدر المتألّهين(2) ـ مبني على ما يبدو من تعميم التحليل المذكور إلى جميع المعلومات، لكن بالنظر إلى عدم ثبوت المهيّة للواجب والممتنع جعل الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) المقسم هو المفهوم لكن لا بما أنّه مفهوم بل باعتبار حكايته عن المصداق الحقيقيّ أو المفروض.

وكيف كان فاعتبار حال المهيّة في المقسم إنّما يناسب القول بأصالة المهيّة، لكنّ القائلين بأصالة الوجود اقتفوا آثار أسلافهم في ذلك، وقد اعتذر صدر المتألّهين في نظير هذا المقام بقوله «ونحن أيضاً سالكوا هذا المنهج في أكثر مقاصدنا الخاصّة حيث سلكنا أوّلاً مسلك القوم في أوائل الأبحاث وأواسطها ثمّ نفترق عنهم في الغايات لئلاّ تنبو الطبائع عمّا نحن بصدده في أوّل الأمر».(3)

الفصل الأوّل

52 قوله «والذي يعطيه التقسيم من تعريفات الموادّ الثلاث...»

هذه المفاهيم بيّنة بنفسها لا تحتاج إلى التعريف مضافاً إلى أنّها من المعقولات


1. راجع: المسألة التاسعة عشر من الفصل الأوّل من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌91.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌169.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌85.

الثانية ولا يمكن تحديدها بالأجناس والفصول. والتعريفات التي ذُكرتْ لها دوريّة كما نبّه عليه في المتن تبعاً لسائر المحقّقين.(1) لكن أعرف هذه المفاهيم هو مفهوم الضرورة (الوجوب) قال في الشفاء: «على أنّ أولىٰ هذه الثلاثة في أن يتصوَّر أوّلاً هو الواجب، لأنّ الواجب يدلّ على تأكّد الوجود، والوجود أعرف من العدم»(2) وقال في المطارحات: «وإن كان ولا بدّ من التعريف فليؤخذ الوجوب بيّناً، كيف وهو تأكّد الوجود، والوجود أظهر من العدم»(3) وقد جعل محور التعريفات المذكورة في المتن هو الضرورة.

53ـ قوله «وبذلك يندفع ما اُورد...»

حاصل الإشكال أنّ الإمكان كما تحصّل من التقسيم المذكور هو سلب الضرورتين، وهو أمر سلبيّ فلا يصحّ وقوعه صفة للنسبة الحكميّة الثبوتيّة، كما لا يصحّ اعتبار الممكن وصفاً ثابتاً بحذاء الواجب، إلاّ أن يرجع إلى الإيجاب العدوليّ فيكسب حظّاً من الوجود، وليس كذلك في ما نحن فيه، فإنّ سلب الضرورتين عن المهيّة سلب تحصيليّ لا إيجاب عدوليّ كما تقرّر في محلّه.

وأجاب صدر المتألّهين(4) بما حاصله أنّ هذا السلب يرجع إلى الإيجاب العدوليّ، وذلك أنّ المقسم هو حال المهيّة بالقياس إلى الوجود والعدم، فإمّا أن يكون أحدهما ضروريّاً لها أو لا، فيؤخذ منه حدّ الممكن وهو المهيّة التي لا يكون الوجود والعدم ضروريّاً لها، وهو مفاد قضيّة موجبة معدولة المحمول.

وحيث إنّ هذا الجواب يوهم التنافي مع سلب كلّ مفهوم عن المهيّة في


1. راجع: نفس المصدر: ص‌83؛ والشوارق: ص‌86؛ والتحصيل: ص‌‌291.

2. راجع: الفصل الخامس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء.

3. راجع: المطارحات: ص‌‌210.

4. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌169.

مقام ذاتها سلباً تحصيليّاً أجاب الاُستاذ تبعاً للحكيم السبزواري(1) بأنّ السلب التحصيليّ في ما كان الموضوع موجوداً يساوي الإيجاب العدوليّ. وكان حقُّ الكلام تقديم لفظة «السالبة المحصّلة» على «القضيّة المعدولة المحمول» في بيان وجه الاندفاع.

لكن رجوع السلب التحصيليّ إلى الإيجاب العدوليّ أو تساويهما في بعض الموارد أمر يحتاج إلى مزيد توضيح فنقول:

بعد تحليل المعلوم إلى حيثيّتين متمايزتين في الذهن يعود العقل إلى حيثيّة المهيّة ويلاحظها في ذاتها فلا يرى فيها وجوداً ولا عدماً ولا أيَّ مفهوم آخر حتّى مفهوم الإمكان، فلا يحكم عليها بشيء سوى ثبوت نفسها لنفسها (بمعنى ثبوت المفهوم لنفسه بالحمل الأوّليّ، أو ثبوت المهيّة اعتباراً لنفسها في وعاء الاعتبار). ثمّ للعقل أن يرجع إلى لحاظه هذا ويعبّر عنه في شكل قضيّة سالبة محصّلة هي قولهم «ليست المهيّة من حيث هي إلاّ هي» وهذه القضيّة من الوجهة المنطقيّة قضيّة ذات حكم سلبيّ (وهو ما أشرنا إليه من ذي قبل من ضرورة وجود الحكم في أيّ قضيّة منطقيّة وإلاّ عادت إلى مجموعة من التصوّرات) وهذا الحكم السلبيّ ضروريّ طبعاً ولا صلة له بسلب الضرورتين الذي يُحكىٰ عنه بالإمكان.

ثمّ يعود العقل فيقايس حيثيّة المهيّة إلى الوجود والعدم فلا يرى فيها اقتضاءً لأحدهما بالرغم من حمل الوجود عليها تارة وحمل العدم عليها اُخرى بالحمل الشائع، ويحكي عن هذه النظرة بقضيّة هي «المهيّة غير موجودة ولا معدومة بالضرورة» ثمّ يلاحظ هذه القضيّة ويفسّرها بأن «ليس الوجود والعدم بضروريّ للمهيّة» وهذا هو منشأ الحكم بسلب الضرورتين عن المهيّة الذي يعبّر عنه بالإمكان، وهذا السلب وإن حُكي بصيغة السالبة المحصّلة إلاّ أنّه ناظر إلى جهة


1. راجع: تعليقة السبزواريّ على الأسفار: ج‌1، ص‌170.

قضيّة اُخرى موجبة معدولة المحمول هي «المهيّة غير موجودة ولا معدومة بالضرورة» والمحمول فيها أمر عدميّ له حظّ من الوجود. ولك أن ‌تقول: إنّ العقل بالنظر إلى سلب الضرورتين يصطنع مفهوماً إيجابيّاً هو الإمكان وينسبه إلى المهيّة، ويصحّ تعريفه بما يلازمه من سلب الضرورتين.

والحاصل أنّ السلب التحصيليّ يتعلّق بجهة قضيّة اُخرى هي موجبة معدولة المحمول، وهذا معنى قول صدر المتألّهين أنّ السلب التحصيليّ يرجع إلى الإيجاب العدوليّ، وقول الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أنّ السلب التحصيليّ يساوي الإيجاب العدوليّ إذا كان الموضوع موجوداً ـ يعني ثابتاً بالثبوت الاعتباريّ وبالنظر إلى القضيّة الموجبة المشار إليها ـ وهذا أيضاً من الموارد التي يكون مفتاح حلّ المعضلة هو التوجّه إلى مراتب الذهن، فتفطّن.

54ـ قوله «إنّ موضوع الإمكان هو المهيّة»

قد عرفت أنّ الموادّ الثلاث صفات للنسب الحكميّة بين الوجود المحموليّ وبين المهيّة أو ما هو بمنزلتها من المفاهيم بما لها من المصاديق الحقيقيّة أو الفرضيّة، فتؤخذ منها عناوين وتُجعل صفاتٍ للموضوعات فيقال مثلاً «المهيّة الممكنة الوجود». ومعلوم أنّ ذلك الحمل ليس من الحمل الأوّليّ لضرورة سلب مفهوم الوجود عن كلّ مفهوم غيره وضرورة ثبوته لنفسه فلا يتحقّق إمكان. فالموضوع في الهليّة البسيطة إمّا أن يكون هو المهيّة بلحاظ مصداقها الاعتباريّ، أو الوجود بلحاظ مصداقه الحقيقيّ، أو العدم بلحاظ مصداقه المفروض. فإن كان الموضوع هو الوجود ثبت له مفهومه بالضرورة، وإن كان الموضوع هو العدم امتنع صدق مفهوم الوجود عليه، فلا يصلح شيء لأن يقع موضوعاً لهليّة بسيطة ممكنة إلاّ المهيّة.

55ـ قوله «انّ الإمكان لازم المهيّة»

يمكن أن يراد بهذه القضيّة ثلاثة معان:

ألف ـ انّ المهيّة التي تتّصف بالإمكان لا ينفكّ عنها هذا الوصف.

ب ان المهيّة التي تتّصف بالإمكان لا تحتاج في اتّصافها به إلى سبب خارج عنها، فذاتها بذاتها تكفي لأن ينتزع العقل هذا المفهوم منها من غير أن يكون داخلاً فيها.(1)

وعلى هذين المعنيين لا يكون مفادها تعميمَ الإمكان لكلّ مهيّة، فلا ينتج نفي المهيّة الواجبة والممتنعة.

ج ـ انّ المهيّة مطلقاً لا تنفكّ عن الإمكان الذاتيّ، فكلُّ مهيّة فهي ممكنة، فتكون عكس القضيّة السابقة الدالّة على اختصاص الإمكان بالمهيّة.(2) وهذا المعنى هو المراد ههنا.

واستدلّ عليه بأنّه لو جاز خلوّ المهيّة عن الإمكان لجاز اتّصافها بالوجود أو العدم بالضرورة مع أنّها في نفسها غير موجودة ولا معدومة.

وربما يُتوهَّم أنّ عدم اتّصافها في نفسها بالوجود والعدم إشارة إلى أنّ ما يحمل عليها بالحمل الأوّليّ هو نفسها لا غير. لكن بالنظر إلى ما بيّنّاه آنفاً (تحت الرقم 53) تعرف أنّ سلب سائر المفاهيم عن الماهيّة كسلب أيّ مفهوم عن مفهوم آخر بلحاظ الحمل الأوّليّ ليس منشأً لانتزاع مفهوم الإمكان، بل منشأ ذلك هو عدم اقتضاء المهيّة بما لها من المصداق الاعتباريّ لحمل الوجود أو العدم عليها بالحمل الشائع. وبعبارة اُخرى: لا مجال لاعتبار ثبوت المهيّة ـ التي حيثيّتها حيثيّة عدم الإباء عن الوجود والعدم ـ لما هو وجود محض وحيثيّته حيثيّة الإباء عن العدم، ولما هو بطلان محض وحيثيّته حيثيّة الإباء عن الوجود.


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌163ـ164؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌‌132.

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌531.

56ـ قوله «انّ الإمكان موجود بوجود موضوعه في الأعيان»

لا ريب في أنّ الامتناع ليس صفة موجودة في الخارج، لكن وقع الخلاف في الوجوب والإمكان هل هما أمران خارجيّان أو من المعاني الاعتباريّة، فقيل كلاهما خارجيّان، وقيل كلاهما اعتباريّان، ونُقل عن بعضهم التفصيل بينهما فالوجوب خارجيّ دون الإمكان. وكأنّ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) تلقَّى خارجيّة الوجوب أمراً مفروغاً عنه حيث قال: «فلأنّه قسيم في التقسيم للواجب الذي ضرورة وجوده في الأعيان» يريد أنّ تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن يقتضي كون المقسم ثابتاً في كلا القسمين، فهما وصفان للموجود الخارجيّ.

ثمّ إنّه نُسب القول بخارجيّة الإمكان إلى المشّائين، والقول باعتباريّته إلى الرواقيّين، ونقل في الأسفار(1) ـ تبعاً للمطارحات(2) ـ عن بعض العوامّ القولَ بعدم زيادته على المهيّات لا ذهناً ولا عيناً!

وقد أصرّ شيخ الإشراق على اعتباريّته، وبها قال المحقّق الطوسيّ، وللفريقين احتجاجات ومناقشات.(3) والحقُّ أنّ كليهما من المعقولات الثانية الفلسفيّة التي يكون عروضها في الذهن واتّصافها في الخارج، وهو المراد بوجود الإمكان بوجود موضوعه في الأعيان كما صرّح به في آخر المبحث. ويشبه أن يكون النزاع لفظيّاً ناشيءاً عن اشتراك لفظة «الاعتباريّ» بين معانٍ متعدّدة كاشتراك المعقول الثاني بين الفلسفيّ والمنطقيّ، ومن هنا يظهر دور الاصطلاحات وأهميّة التحقيق حولها.

قال صدر المتألّهين: «وفي التحقيق وعند التفتيش لا تَخالفَ بين الرأيين، ولا مناقضة بين القولين، فإنّ وجودها في الخارج عبارة عن اتّصاف الموجودات العينيّة


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌172.

2. راجع: المطارحات: ص‌‌343.

3. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌171ـ186؛ والمسألة (بيست) من الفصل الأوّل من الشوارق؛ والمباحث المشرقية: ج‌1، ص‌114ـ121؛ والتلويحات: ص‌25؛ والمطارحات: ص‌343ـ390.

بها بحسب الأعيان، وقد دريت أنّ الوجود الرابط في الهليّة المركّبة الخارجيّة لا ينافي الامتناع الخارجيّ للمحمول. فعلى ما ذكرناه يحمل كلام أرسطو وأتباعه، فلا يرد عليهم تشنيعات المتأخّرين، سيّما الشيخ المتألّه صاحب الإشراق».(1)

57ـ قوله «وإمّا ممكناً وهو خارج عن ثبوت المهيّة...»

يريد أنّ الإمكان لو كان موجوداً مستقلاًّ في الأعيان كان ممكناً لاستحالة وجوبه بالذات، وحيث إنّ المفروض انحيازه واستقلاله عن المهيّة المتّصفة به كان أمراً منضمّاً إليها، فكانت المهيّة في حدّ نفسها وبصرف النظر عن انضمام الإمكان إليها فاقدة له، فكان اتّصافها بالإمكان بسبب خارج عن ذاتها، فكان إمكانها بالغير، «وسيجيء استحالة الإمكان بالغير». أضف إلى ذلك أنّ الإمكان لو كان موجوداً مستقلاًّ ممكناً كان متّصفاً بالإمكان، فيُنقل الكلام إلى إمكانه، وهكذا فيتسلسل.

تنبيه

58ـ قوله «مع الوجود لا بالوجود»

يعني أنّ الموضوع في القضيّة الضروريّة الذاتيّة لا يكون مقيّداً بالوجود بحيث تعود القضيّة ضروريّة وصفيّة كما زعم المحقّق الدوانيّ.(2) لكن ظاهر هذا الكلام مناقض لما مرّ من أنّ ما يحمل على حيثيّة المهيّة فإنّما هو بالوجود، وأنّ لازم المهيّة بحسب الحقيقة هو لازم الوجودين كما ذهب إليه الدوانيّ.(3) ويمكن دفع المناقضة


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌140.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌91ـ92.

3. راجع: الفصل الثاني من المرحلة الاُولى في المتن.

بأنّ كلامه ههنا ناظر إلى ظرف الثبوت الاعتباريّ للمهيّة، وأمّا كلامه هناك فمبنيّ على نظر أعمق وبلحاظ عدم ثبوتها الحقيقيّ، فتأمّل.

وسيکرّر الکلام في الضرورة الذاتيّة بتوضيحٍ أکثر في آخر الفصل الثالث من هذه المرحلة.

تنبيه آخر

59ـ قوله «لا أنّه أعمُّ مفهوماً»

إذا اعتبرنا الإمكان العامَّ كمعنى عرفيّ يفسَّر بسلب الضرورة عن الجانب المخالف بشرط أن لا يلاحظ معه سلب الضرورة عن الجانب الموافق واعتبرنا الإمكان الخاصّ كاصطلاح خاصّ بالعلوم العقليّة يفسّر بسلب الضرورة عن الجانبين صحّ اعتباره كمشترك لفظيّ بين المعنيين، لأنّ اعتبار قيد الإطلاق في المعنى الأوّل يجعله مبائناً للمعنى الثاني. لكن لا يمنع ذلك من أن يلاحظ المعنى الأوّل لا بشرط، فيكون أعمَّ مفهوماً منهما. وكيف كان فهذا البحث لا يترتّب عليه نتيجة فلسفيّة.

نعم، لو اُريد بالجامع المفهوميّ، المعنى الجنسيّ، لزم أن يكون الإمكان بمعناه اللابشرطيّ طبيعة جنسيّة ذات نوعين، فيكون كلّ واحد منهما مركّباً من جنس وفصل، فيتوهَّم أن «الواجب» أيضاً مهيّة نوعيّة مرکّبة يكون «الممكن» بمعناه العامِّ المشترك جنساً له، ويجب اعتبار فصل له يميّزه عن «الممكن» بمعناه الخاصّ، فيتعلّق غرض الفيلسوف بدفع هذا التوهّم كما قال صدر المتألّهين: «...لا على أنّ هناك طبيعة جامعة لهما (أي للواجب والممكن) في نفس الأمر، لأنّ ما في نفس الأمر إمّا الوجوب أو الإمكان وإنّما ذلك في تصوّر العقل واعتباره مفهوماً جامعاً لهما هو في نفس الأمر وبحسب الواقع ليس إلاّ أحد الأمرين، لا طبيعة مبهمة

متحصّلة بهما مع قطع النظر عن اعتبار العقل وتعمّله»(1) وهذا كما ترى لا يعني نفي مطلق الجامع المفهوميّ بين الواجب والممكن. وأمّا نفي مطلق الجامع المفهوميّ بين الجهات فليس أمراً بيّناً ولا مبيَّناً، ولا يتعلّق به غرض فلسفيّ.

60ـ قوله «وربما اُطلق الإمكان واُريد به الإمكان الاستعداديّ»

المشهور بينهم أنّ الإمكان الاستعداديّ هو أحد أقسام الكيف كما سيأتي في الفصل الرابع عشر من المرحلة السادسة، فهو عندهم من المعقولات الاُولى بخلاف الإمكان بسائر معانيه، وسوف نبحث هناك عن ذلك ونبيّن أنّ الحقّ أنّه أمر ينتزع من تحقّق شرائط وجود الأمر المادّي وانتفاء موانعه ـ إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني

61ـ قوله «ينقسم كلٌّ من هذه الموادّ الثلاث...»

قد تقدّم في كلامه(دام‌ظله‌العالی) أنّ موادّ القضايا تنقسم إلى ثلاث، انقساماً حقيقيّاً حاصلاً من منفصلتين حقيقيتين، فلا تخلو منها قضيّة، ولا يتحقَّق أكثر من واحد منها في قضيّة. وقد عرفت أنّ الفيلسوف يلاحظ هذه الموادّ في الهليّات البسيطة، فيعتبر حال الموضوع بالنسبة إلى الوجود ويأخذ منها عناوين الواجب الوجود. والممكن الوجود، والممتنع الوجود. فيستحيل أن لا يكون شيء بالنظر إلى ذاته لا واجباً ولا ممكناً ولا ممتنعاً. وكذا يستحيل اجتماع عنوانين منها أو أكثر في شيء واحد. فالواجب بالذات يستحيل أن يكون ممتنعاً أو ممكناً بالذات، وهكذا قسيماه.


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌150.

وهناك اعتباران آخَران: أحدهما أن يلاحظ حال الموضوع بالنسبة إلى الوجود متحيّثاً بحيثيّة تعليليّة، فحينئذ تُقيَّد العناوين الثلاث بقيد «بالغير».

وثانيهما أن يلاحظ حاله بالنسبة إلى الوجود مقيساً إلى شيء آخر، ويُحكىٰ عنه بقضيّة شرطيّة كقولنا «إن كان هذا موجوداً كان وجود ذاك ضروريّاً أو ممكناً أو ممتنعاً بالقياس إليه» وحينئذ تُقيَّد العناوين المذكورة بقيد «بالقياس إلى الغير»(1) فيكون الوجوب بالقياس حكاية عن تحقُّق العلاقة اللزوميّة بين المقيس والمقيس إليه، والامتناع بالقياس حكاية عن تحقُّق العلاقة العناديّة بينهما، والإمكان بالقياس حكاية عن لا تحقُّقهما.

أمّا الاعتبار الأوّل فمقتضاه أن يكون الموضوع في حدّ نفسه وبصرف النظر عن الحيثيّة التعليليّة فاقداً للعنوان حتّى يحصل له بالعلّة، وإلاّ كان تحصيلاً للحاصل أو كان مستلزماً لوجود ثان أو عدم ثان لشيء واحد، وكلاهما مستحيل. فالواجب بالذات لا يكون واجباً بالغير،(2) والممتنع بالذات لا يكون ممتنعاً بالغير، وهكذا الممكن بالذات لا يكون ممكناً بالغير. ومن الواضح عدم إمكان اتّصاف الواجب بالذات بالامتناع والإمكان الغيريّين لاستحالة صيرورة ما يكون الوجود ضروريّاً له بالذات معدوماً أو متساوي النسبة إلى الوجود والعدم بسبب الغير، وكذا يستحيل صيرورة الممتنع بالذات واجباً أو ممكناً بالغير. فالإمكان بالغير فرض باطل لا يمكن تحقُّقه في شيء أصلاً.(3)

وقد عرفت استحاله ‏اتّصاف الواجب بالذات والممتنع بالذات بالوجوب والامتناع الغيريّين فلا يبقىٰ لهما إلاّ الممكن بالذات، لأنّه الذي يكون في حدّ ذاته


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌155ـ161.

2. راجع: نفس المصدر: ص‌92ـ95؛ وراجع: النجاة: ص‌225؛ والفصل السادس من المقالة الاُولى من إلهيّات الشفاء.

3. راجع: المسألة الحادية والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق؛ وراجع: الأسفار: ج‌1، ص‌161ـ171.

فاقداً للوجوب والامتناع وغير آبٍ عنهما، فيصير بسبب علّة الوجود واجباً بالغير، وبسبب علّة العدم ـ التي هي عبارة عن عدم علّة الوجود ـ ممتنعاً بالغير. قال في التلويحات: «ومن خاصّية الممكن صدقُ قسيميه عليه بشرائط، وليس لغيره من الجهات هذا»(1) ومثله كلام صدر المتألّهين في الأسفار،(2) وقال في موضع آخر: «فإذن قد استبان أنّ الموصوف بما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات».(3)

وأمّا الاعتبار الثاني أعني اعتبار المقايسة إلى الغير فلم ‌يُبحث عنه بحثاً وافياً يزيح عنه كلَّ جهات الإبهام في ما وقفنا عليه من كتب القوم، والمرجوُّ أن يوفّقنا الله تعالى لذلك، فنقول:

إنّ الشيئين اللذينِ يقاس حال أحدهما بالآخر إمّا أن تكون بينهما علاقة لزوميّة أو عناديّة أو لا يكون بينهما شيء منهما. ويمكن إرجاع العلاقة العناديّة إلى العلاقة اللزوميّة بين كلّ واحد منهما مع نقيض الآخَر. ففي صورة وجود العلاقة اللزوميّة بأحد الوجهين إمّا أن يكون اللزوم من الجانبين بأن يكون كلُّ واحد منهما مستلزماً للآخر بنحو الاقتضاء أو الاستدعاء أو يكون اللزوم من جانب واحد بأن يكون أحدهما بعينه مستلزماً للآخر دون العكس. ثمّ التلازم قد يكون أصالةً في الأعيان وينعكس في الأذهان، وقد يكون أصالةً بين العناوين الذهنيّة وينسب إلى الأعيان بالعرض أي بما أنّها مصاديق تلك العناوين.

فالتلازم بين الوجودين الخارجيّين مثل العلاقة المتقابلة بين العلّة التامَّة ومعلولها حيث يستحيل الانفكاك بينهما في نفس الأمر ـ كما سيأتي البحث عنه في الفصـل الثالث من المرحلة الثامنة ـ وكتلازم معلولي علّة تامّة واحدة، وهو في


1. راجع: التلويحات: ص‌‌32.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌202.

3. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌236.

الواقع نتيجة علاقتين بين كلّ واحد منهما مع العلّة. وهذه العلاقة تنعكس في الذهن بشكل التضايف بين مفهومي العلّة والمعلول.

والتلازم الذي يكون أصالةً بين العنوانين الذهنيّين مثل تلازم المتضائفين، كالأب والابن، وكالأخوين، وينسب إلى المتّصف بهما في الخارج بالعرض. وذلك لأنّ الحقّ أنّ الإضافة أمر اعتباريّ قوامه بلحاظ العقل وعروضه في الذهن وإن جاز الاتّصاف بها في الخارج. وفي جميع هذه الموارد يتّصف الطرفان بالوجوب بالقياس.

واعلم أنّ الشيخ حصر العلاقة اللزوميّة في علاقة العلّية،(1) وتبعه صدر المتألّهين، ووافقهما الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) كما تلاحظ في المتن، خلافاً لأبي البركات البغداديّ وفخر الدين الرازيّ وشيخ الإشراق، حيث زادوا نوعاً آخر وهو علاقة التضايف. وقد أرجعها الشيخ إلى علاقة العلّية لما أن المتضائفين يكونان معلولَي علّة ثالثة. لكن لأحد أن يعكس الأمر ويرجع العلّية إلى التضايف ويحصر العلاقة اللزوميّة فيه لما بين عنواني «العلّة والمعلول» وعنواني «معلولين لعلّة واحدة» من التضايف. والحقُّ كما عرفت أنّ التلازم نوعان: خارجيّ وعقليّ، وإن شيءت قلت: وجوديّ ومفهوميّ. والتلازم بين المتضائفين يكون من قبيل الثاني ولا يلاحظ فيه معلوليّتهما لعلّة واحدة ـ على فرض صحّة كونهما معلولين لعلّة واحدة في جميع الموارد ـ وإنّما يلاحظ العلاقة بين المفهومين، ثمّ ينسب إلى مصداقيهما بالعرض.

ولا يخفى أنّ عنوان الوجوب بالقياس ـ كقسيميه وكالوجوب بالذات وبالغير وقسيميهما ـ يكون على أيّ حال من المعقولات الثانية التي يكون عروضها في الذهن، وإنّما يختلف الحال في موردي التلازم الخارجيّ والعقليّ في أنّ المتّصف به في الأوّل هو الخارج مباشرةً، وفي الثاني بواسطة معقول ثان آخر، وهو غير


1. راجع: الفصل السادس من المقالة الاُولىٰ من إلهيّات الشفاء؛ وتعليقة صدر المتألّهين على إلهيّات الشفاء: ص‌‌32.

الارتباط الوجودي المتحقّق بين حقيقة العلّة وحقيقة المعلول في الخارج، سواء لاحظه العقل أو لم ‌يلاحظه.

لا يقال: وجود المعلول عند وجود العلّة التامّة وبالعكس أمر ضروريّ في الواقع سواء عرفنا ذلك أو لم ‌نعرف، وسواء قايسنا أحدهما بالآخر أو لم ‌نقايس، وليس الوجوب بالقياس إلاّ عبارة عن نفس هذا التلازم العينيّ.

فإنّه يقال: لا معنى لوجوب كلّ واحد منهما بالقياس إلى الآخر في الواقع ونفس الأمر سوى أنّ العقل إذا قايس بينهما انتزع هذا المفهوم منهما، لا أنّه يوجد بإزاء هذا المفهوم أمر عينيّ في الخارج وراء ذات العلّة وذات المعلول. ويمتاز ما بالقياس عمّا بالذات وما بالغير بلزوم ملاحظة أمر وراء ذات الموضوع ومقايستهما بعضهما ببعض والنظر في وجود العلاقة بينهما وعدمها.

وأمّا التلازم بين أحد الشيئين ونقيض الآخر فمثل العلاقة العناديّة بين العلّة التامّة وعدم معلولها، وكذا بين المعلول وعدم علّته، وكالعلاقة بين كلّ واحد من معلولي علّة واحدة مع عدم الآخر، والعلاقة بين أحد المتضائفين وعدم الآخر. ففي هذه الموارد يتّصف الطرفان بالامتناع بالقياس.

وأمّا العلاقة اللزوميّة من الجانب الواحد فهي العلاقة بين وجود المعلول ووجود كلّ واحد من أجزاء علّته، فإنّ وجود كلّ واحد من أجزاء العلّة بالقياس إلى وجود المعلول واجب، لكن وجود المعلول بالقياس إلى واحد واحد من أجزاء العلّة ممكن. ومن المعلوم لزوم عدم لحاظ سائر الأجزاء وجوداً وعدماً، وإلاّ فمع لحاظ وجود سائر الأجزاء تكون العلاقة من الجانبين وجوباً بالقياس، ومع لحاظ عدم سائر الأجزاء تكون العلاقة من الجانبين امتناعاً بالقياس، بمعنى أنّ فرض عدم بعض أجزاء العلّة على تقدير وجود المعلول ممتنع، وكذا وجود البعض الآخر المقيّد بهذا العدم الممتنع، فإنّ المقيّد بالممتنع ممتنع بما أنّه مقيّد.

لا يقال: وجود المعلول لا ينفكّ عن وجود العلّة بتمام أجزائها في نفس الأمر وإن لم ‌نلاحظ بعضها، فالنسبة بينهما وجوب بالقياس من الجانبين.

فإنّه يقال: المقايسة بين شيئين لا يستلزم لحاظ جميع لوازمهما وملزوماتهما، فللعقل أن يقصر النظر على وجود شيء ووجود أجزاء علّته من دون أن يلاحظ سائر الاجزاء وجوداً وعدماً، وإن كانت العلّة بتمام أجزائها موجودة في الواقع.(1) على أنّ المقايسة لا يلزم أن تكون بين الوجودين الشخصيّين، بل يكفي تصوّر وجود معلول وتصوّر وجود جزء من اجزاء علّته وقياس أحدهما بالآخر في الذهن. غاية الأمر أن يقال إنّ مرجع هذا إلى العلاقة الذهنيّة أو الفرضيّة، لكنّها ليست أسوء حالاً من العلاقة بين الواجبين المفروضين.

وهذا الكلام يجري في مقايسة وجود حادث مادّيّ أو عدمه بالواجب تعالى بلا لحاظ شرائط تحقُّقه وجوداً وعدماً، فإنّه في هذا اللحاظ يتّصف بالإمكان بالقياس. ولا وجه للفرق بين وجوده وعدمه بالتزام الوجوب في الأوّل والإمكان في الثاني كما وقع في المتن، فإنّه إذا جاز قياس عدم شيء خاصّ بالواجب سبحانه وجعلُه مبرّراً لاتّصافه بالإمكان بالقياس جرى مثله في وجوده أيضاً، وكما أنّ وجود شيء معيَّن ضروريٌّ بحسب النظام العلّي والمعلوليّ المنتهي إلى الواجب تبارك وتعالى كذلك عدم شيء معيَّن أيضاً ضروريٌّ بحسب مقتضيات ذلك النظام وإن كان ممكناً بالذات. وكما أنّ هذا العدم الضروريَّ لا يضرُّ باتّصافه بالإمكان بالقياس، كذلك ذاك الوجود الضروريّ أيضاً لا يضرّ باتّصافه بالإمكان بالقياس، فتدبّر جيّداً.

ولا يخفى أنّه إذا قويس بين الممكن المعدوم مع بعض أجزاء العلّة اتّصف الطرفان بالإمكان بالقياس إلى الغير، بخلاف ما إذا قويس بين الممكن الموجود مع


1. قال الاستاذ(دام‌ظله‌العالی) في الفصل العاشر من المرحلة الثامنة «مجرّد فرض الفاعل تامّ الفاعليّة... لا يوجب تغيّر نسبته في نفسه إلى الفعل من الإمكان إلى الوجوب».

بعض أجزاء علّته، فإنّ وجود الممكن حينئذ هو الذي يتّصف بالإمكان بالقياس دون وجود العلّة الناقصة، حيث إنّه يتّصف بالوجوب بالقياس كما ذكرنا.

ثمّ إنّه ربما يستشكل في كلامه(دام‌ظله‌العالی) أنّه جعل عدم وجود بعض الشرائط ملحوظاً مع أنّه قد مرّ ضرورة عدم لحاظ سائر أجزاء العلّة وجوداً وعدماً، وأنّ ظاهره اختصاص ذلك بالمقايسة بين الواجب والممكن المعدوم. لكن يمكن دفعه بأنّ المراد اعتبار عدم وجود بعض الشرائط ظرفاً للمقايسة لا اعتباره قيداً للواجب، وبأنّ ذكر الواجب إنّما هو من باب المثال، ويستفاد التعميم من التعليل المستفاد من الوصف، وهو كونه «جزء العلّة التامّة». وجدير بالذكر أنّ اعتبار الواجب جزءً من العلّة التامّة مبنيٌّ على لحاظ الممكن موجوداً منفصل الوجود عن غيره. وهناك اعتبار آخر يكون الواجب بحسبه علّة تامّة.(1)

وأمّا الشيئان اللذان لا علاقة لزوميّة ولا عناديّة بينهما فيتّصفان بالإمكان بالقياس إلى الغير، وقد مثّلوا لهما بالواجبين المفروضين أو أحدهما مع وجود معلول الآخر أو عدمه. لكن إذا كان الفرض مصحّحاً لاتّصاف الواجب بالذات بالإمكان بالقياس، فالمقايسة الذهنيّة بينه وبين موجود ‌مّا لم ‌تلحظ شرائط تحقُّقه وجوداً وعدماً أولى بكونها مبرّراً للاتّصاف به كما أشرنا إليه. وبالنظر إلى أنّ هذا الموجود المفروض يكون لا محالة من مخلوقاته تعالى كان هو المتّصف بالإمكان بالقياس دون الواجب سبحانه بخلاف ما إذا قويس بين وجود الواجب وممكن معدوم حيث يتّصف كلاهما بالإمكان بالقياس حينئذ كما مرّ. ومن هنا يظهر أنّ الإمكان بالقياس ربما يختصّ بأحد الطرفين دون الآخر.

ثمّ إنّ الشيخ جوّز اتّصاف الواجب بالذات بالإمكان بالنظر إلى بعض الإضافات اللاحقة به. قال في موضع من الشفاء: «ولا نبالي بأن يكون ذاته


1. راجع: تعليقة الاستاذ على الأسفار: ج‌1، ص‌‌159.

مأخوذة مع إضافة ‌مّا ممكنةَ الوجود، فإنّها من حيث هي علّة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاته».(1) وقال صدر المتألّهين بعد نقل هذا الكلام: «ولا يرتضي به من استشرق قلبه بأنوار الحكمة المتعالية»(2) ثمّ بيّن أنّ الممكنات المستندة إلى الواجب واجبة الحصول له تعالى، لأنّ وجوداتها روابط فيضه وَجُوده، وقال في آخر كلامه: «والعجب من الشيخ وشدّة تورّطه في العلوم وقوّة حدسه وذكائه في المعارف أنّه قصر إدراكُه عن فهم هذا المعنى».(3) لكن يمكن الجمع بينهما بحمل الإضافة في كلام الشيخ على الإضافة التي تعرض في الذهن بلحاظ مقايسة الواجب تعالى إلى موجود مّا، وهي إضافة مقوليّة لا محالة. وأمّا المراد بالإضافة في كلام صدر المتألّهين فهو الإضافة الإشراقيّة ـ كما هو واضح من كلامه ـ ولا تنافي بينهما.

وقد ظهر ممّا ذكر صحّة اجتماع الوجوب بالذات والوجوب بالقياس إلى الغير (بخلاف الوجوب بالغير) وكذا الحال في الامتناع والإمكان، وظهر صحّة اجتماع الوجوب بالذات مع الإمكان بالقياس أو الامتناع كذلك (بخلاف الامتناع بالغير) وهكذا في قسيميه. والحمد لله كما هو أهله.

الفصل الثالث

62ـ قوله «واجب الوجود بالذات مهيّته إنّيّته»

تعتبر هذه المسألة كمبنى لكثير من المسائل الإلهيّة كإثبات بساطة ذاته تعالى وعدم


1. راجع: الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌126.

3. راجع: نفس المصدر: ص‌128.

وجود جنس مشترك بينه وبين سائر الموجودات(1) وإثبات توحيده ودفع بعض الشبهات التي اُوردت حوله،(2) وكذا عدم استطاعة العقل على معرفة كنه ذاته سبحانه، فإنّ العقل إنّما يمكنه اكتناه المهيّات، وأمّا ما لا مهيّة له فليس للعقل أن يعرف كنهه،(3) فالعقل يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته الذاتيّة والفعليّة، وكلّها عناوين عقليّة لا مفاهيم ماهويّة، ولا مجال ههنا لبيان كيفيّة نيل العقل لها وإطلاقها عليه تعالى. وقال الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) في تعليقته على الأسفار ما حاصله أنّ براهين إثبات الواجب تثبت نفي الواسطة في الثبوت، وأمّا نفي الواسطة في العروض فيثبت من هذا البحث.(4)

ثمّ إنّ الشيخ عَنونَ المسألة في الشفاء هكذا: «انّ الأوّل لا مهيّة له غير الإنّيّة»(5) وقال في تعليقاته «انّ معنى قولنا مهيّته إنّيته أنّه لا مهيّة له» وجعل المحقّق الطوسيّ في التجريد عنوان المسألة عدم زيادة الوجود عليه كما في المباحث المشرقيّة.(6) وقال في الأسفار «في أنّ واجب الوجود إنّيته مهيّته»(7) وفسّره في موضع آخر بأنّه لا مهيّة له سوى الوجود الخاصّ المجرّد عن مقارنة المهيّة.(8)

وربما يستشكل الجمع بين قولهم «لا مهيّة له» وقولهم «مهيّته إنّيته» وبالعكس،


1. راجع: الفصل الرابع والفصل الخامس من المقالة الاُولىٰ من إلهيّات الشفاء؛ والتحصيل: ص‌‌571؛ والشوارق: ص‌‌103؛ والتلويحات: ص‌‌35؛ والنمط الرابع من شرح الإشارات؛ وراجع: المبدء والمعاد لصدر المتألّهين: ص‌‌27ـ29.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌130.

3. راجع: القبسات: ص‌‌49؛ والشوارق: المسألة السابعة والعشرين من الفصل الأوّل، ص‌‌107؛ والأسفار: ج‌1، ص‌113.

4. راجع: تعليقة الاستاذ على الأسفار: ج‌1، ص‌96.

5. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء.

6. راجع: المباحث المشرقية: ج‌1، ص‌30.

7. راجع: الأسفار: ج6، ص‌48ـ57؛ والمبدء والمعاد: ص‌‌24ـ29.

8. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌96.

ولقد أجاد شيخ الإشراق حيث قال: «والمهيّة قد يُعنىٰٰ بها ما به يكون الشيء هو ما هو، وبهذا المعنى يقولون للبارئ ماهيّته هي نفس الوجود، وقد تُخصَّص بما يزيد على الوجود ممّا به الشي هو ما هو، فتقتصر على أشياءَ الوجودُ من لواحقها، وبهذا الاعتبار يقولون: الأوّل لا مهيّة له، أي أمر يعرض له الوجود».(1)

وقد استدلّوا لهذه المسألة بوجوه عديدة،(2) وقد ابتدأ الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) بالبيان المبتني على ما مرّ من مساوقة المهيّة للإمكان «فما ليس بممكن فلا مهيّة له» ثمّ اختار وجهين(3) من الوجوه التي استُدلّ بها ووصف أوّلهما بالأمتن، وسيعيد الكلام حول هذه المسألة في الفصل الثالث من المرحلة الثانية عشر.

63ـ قوله «ودفع بأنّه مبنيّ...»

الضمير راجع إلى الدليل لا إلى الاعتراض، والتذكير هو باعتبار «ما ذكر» أو بتأويل الحجّة إلى الدليل.

64ـ قوله «من دون حاجة إلى حيثيّة تعليليّة أو تقييديّة»

وذلك بخلاف المهيّات، حيث تحتاج في عروض الوجوب لها إلى حيثيّة تقييديّة لأنّ اتّصافها بالأوصاف الوجوديّة يكون بعرض الوجود، وبخلاف الوجودات الخاصّة الإمكانيّة حيث تحتاج في ثبوت الوجوب لها إلى حيثيّة تعليليّة هي الواسطة في الثبوت.


1. راجع: المقاومات: ص‌‌175؛ والمطارحات: ص‌‌399.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌96ـ113، وج6، ص‌48ـ57؛ والمسألة السابعة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق: ص99ـ108.

3. راجع: التلويحات: ص‌34ـ35.

 

الفصل الرابع

65ـ قوله «والحجّة فيه...»

بيان للحجّة التي أقامها صدر المتألهين بقوله «لو كان بالقياس إلى صفة كماليّة جهةٌ إمكانيّة بحسب ذاته بذاته للزم التركيب في ذاته»(1) والمراد بالتركيب من جهتي الوجود والعدم أو من جهتي الوجوب والإمكان هو التركيب بحسب التحليل العقليّ في مقابل البساطة بمعناها الأخصّ الذي مرّت الإشارة إليه ـ ومرجع التركيب هذا إلى ضعف الوجود ونقصه ـ لا التركيب العينيّ الخارجيّ، ضرورة أنّ الإمكان والعدم ليسا أمرين عينيّين حتّى يستقرّا في موجود خارجيّ، ويلزَم من فرض أحدهما في الواجب تركّبه من الوجود والعدم أو الوجوب والإمكان العينيّين. وهذه الحجّة كما ترى تتوقّف على إثبات بساطة ذات الواجب ونفي تركّبه حتّى بحسب التحليل العقليّ.

وأمّا الحجّة الثانية فقد قرّرها صدر المتألّهين بتقرير، ونقل إيراداً مشهوراً عليها، ثمّ عدل إلى تقرير آخر لدفع ذلك الإيراد، وحاصله أنّ الصفة الممكنة المفروضة تكون معلولة لغير الواجب لا محالة، ويكون عدمها أيضاً معلولاً لعدم ذلك الغير، فلو اعتبرنا ذات الواجب مع قطع النظر عن ذلك الغير وجوداً وعدماً فإمّا أن تكون تلك الصفة موجودة في الواجب فيلزم وجود المعلول بلا علّة حيث لم يعتبر وجود الغير الذي هو العلّة لتلك الصفة، وإمّا أن تكون معدومة فيه فيلزم عدم المعلول بلا علّة حيث لم يعتبر عدم الغير الذي هو العلّة لعدم تلك الصفة. ووجود الواجب لا يخلو في نفس الأمر من أحد هذين الفرضين المستحيلين، فيلزم استحالة وجوب ذاته إذا اعتبرت بلا شرط، أي بلا اعتبار ذلك الغير وجوداً وعدماً. فيتبيّن أنّ ذاته كافية في اتّصافه بكلّ ما له من الأوصاف.


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌123.

ثمّ ذكر إشكالاً على هذا التقرير أيضاً هو أنّ المفروض في الحجّة عدم اعتبار ذلك الغير وجوداً وعدماً، وهو غير اعتبار وجوده وعدمه، كما أنّ للعقل أن يعتبر المهيّة بصرف النظر عن وجودها وعدمها مع أنّها في نفس الأمر لا تخلو عن أحدهما، فللخصم أن ‌يقول: ذلك الغير موجود في الواقع وإن لم يعتبر وجوده، والصفة الممكنة أيضاً موجودة بسببه فلا يلزم محال.

وأجاب بما حاصله أنّ قياس ذات الواجب على المهيّة غير صحيح، لأنّ مرتبة ذات المهيّة غير مرتبة الواقع، فللعقل أن ‌يلاحظها بصرف النظر عن الواقع، أمّا مرتبة ذات الواجب فهو عين الواقعيّة والتي ينال كلُّ شيء واقعيّتَه منها، فلو فرضت بعض صفاته معلولة لغير لزم فرض ذلك الغير أيضاً. ثمّ ختم كلامه بقوله «وهذا غاية ما يتأتَّى لأحد من الكلام في هذا المرام» ولعلّ فيه إشعاراً بعدم اعتماده على هذه الحجّة، كما أنّ عدول الاُستاذ عن هذا التقرير أيضاً لا يخلو من إشعار بهذا المعنى.

وكيف كـان فغاية ما يستفاد من هذا الجواب ـ على فـرض التسليم ـ هـو لزوم اعتبار ذلك الغير مع الواجب، وفساد هذا التالي غير بيّن ولا مبيّن في الحجّة، اللّهمّ إلاّ أن يقال: مرجع ذلك إلى احتياج الواجب إلى الغير، وهو ينافي وجوب وجوده، فليتأمّل.

وأمّا التقرير الذي ذكره الاُستاذ(دام‌ظله‌العالی) أخيراً فحاصله أنّ اتّصاف الواجب بصفة ممكنة يستلزم احتياجه إلى الغير، فلا تحصل تلك الصفة إلاّ بإيجاب الغير لها، فيلزم من فرض وجودها في الواجب اتّصافه بالوجوب بالغير، وقد مرّ استحالة الجمع بين الوجوب بالذات والوجوب بالغير في شيء واحد.

لكن يلاحظ عليه أنّ المتّصف بالوجوب بالغير في الواقع هو نفس الصفة الممكنة لا ذات الواجب، فلا يلزم اجتماعهما في شيء واحد حقيقةً.

ويمكن تتميم الحجّة بأنّ الغير المفروض إمّا أن ‌يكون معلولاً للواجب أو لا يكون

معلولاً له، والأوّل يستلزم أن يكون الواجب معلولاً لمعلوله، ومعناه أن ‌يستفيد من معلوله ما يكون فاقداً له في ذاته، مع أنّ المعلول لا يملك إلاّ ما استفاد من علّته المفيضة لوجوده، والثاني يستلزم وجود واجب آخر، وتنفيه براهين التوحيد.

يبقى الكلام في مورد التمسّك بهذه القاعدة، وبيانه يتوقّف على تعيين المقصود منها بالضبط، فنقول:

يمكن أن يراد بمحمول القضيّة (واجب الوجود من جميع الجهات) الوجوب بالذات، فيكون مفادها أنّ جميع صفات الواجب تعالى واجبة بالوجوب الذاتيّ لذاته سبحانه، فينطبق على مسألة عينيّة الصفات الذاتيّة مع الذات. لكنّ الحجّة الثانية لا تفي بهذا المقصود، لأنّها إنّما تنفي معلوليّة صفات الواجب لغيره فقط. ويمكن أن ‌يراد به أعمُّ من الوجوب الذاتيّ والغيريّ، فيكون مفادها أنّ ما يمكن اتّصاف الواجب به بالإمكان العامّ فهو ثابت له بالضرورة الذاتيّة أو الغيريّة، أمّا الضرورة الذاتيّة ففي الصفات الذاتيّة التي هي عين ذاته تعالى، وأمّا الضرورة الغيريّة فيحتمل لها في بادئ النظر موردان: أحدهما أن تحصل له سبحانه صفات زائدة على ذاته ومعلولة لنفس ذاته، وثانيهما أن تحصل له صفات معلولة لغيره، وكلتا الحجّتين تنفيان الثاني، لكنّ الحجّة الاُولى تنفي الأوّل أيضاً لأنّ محذور التركّب المذكور جارٍ فيها جميعاً، فإن اعتمد على الحجّة الثانية فقط جاز التمسّك بها لإثبات أنّه لو أمكن للواجب صفة زائدة على ذاته كانت واجبة الحصول له من قِبل ذاته، لكنّ الكلام في إمكان هذه الصفة.(1) ولو اعتمد على الحجّة الاُولى لم يبق للتمسّك بالقاعدة إلاّ الصفات الذاتيّة، فلا حاجة إلى تعميم الوجوب في محمول القضيّة للوجوب الغيريّ.

قال الشيخ في النجاة بعد ذكر القاعدة والاستدلال لها بما حاصله أنّ فرض صفة


1. في دعاء عرفة لسيّد الشهداء(علیه‌السلام): إلهي تقدّس رضاك أن تكون له علّة منك فكيف تكون له علّة منّي.

إمكانيّة للواجب يستلزم تعلّق وجود الواجب بعلّة تلك الصفة، وهذا ينافي وجوب وجوده، قال: «فبيّن من هذا أنّ واجب الوجود لا يتأخّر عن وجوده وجود منتظَر، بل كلّ ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة».(1)

وظاهر كلامه هذا اعتماده على الحجّة الثانية التي لا تنفي صفة معلولة لذاته، وإنّما تنفي تأخّرها وانفكاكها عن ذاته، وهو يلائم مذهب المشائين في علم الواجب تعالى. كما أنّ الاستدلال بالقاعدة لإثبات قدم العالم يؤيّد هذا المعنى، وإن كان في الاستدلال نظر يضيق المجال عن بيانه.

وقال الرازيّ في المحصّل بعد ذكر القاعدة والاستدلال لها بنظير كلام الشيخ في النجاة: «وهذه الحجّة لا تتمشَّى إلاّ بنفي كون الإضافات اُموراً وجوديّة في الأعيان». وقال المحقّق الطوسيّ في نقد المحصّل ما هذا لفظه: «هذه المسألة هي المعركة بين المتكلّمين والفلاسفة، لأنّه يقتضي كون الواجب واجباً من جهة الفاعليّة، فيكون فعله قديماً، والمتكلّمون لا يسلّمون هذا» ثمّ قال بصدد المناقشة في الحجّة ـ حسب ما قرّره الرازي ـ : «قوله ـ يعني قول الرازيّ ـ «إذا فرضنا اتّصافه بأمر موقوف على أمر خارجيّ فذاته موقوفة على الغير» ليس بصحيح، لأنّ توقُّف أمر يتعلّق بالواجب وغير الواجب لا يوجب توقُّف الواجب علىغير الواجب، بل لا يوجب إلاّ توقُّف ذلك الأمر علىغير الواجب، والإضافات والسلبيّات في الصفات كلُّها كذلك،وهم يقولون باتّصافه بهما. فإذن ليس مرادهم من قولهم «الواجب لذاته واجب من جميع جهاته» هذا، بل المراد أنّه واجب من جميع جهات تتعلّق به وحده ولاتتوقّف على الغير، ككونه مصدراً ومبدءً، لا ككون الغير صادراً عنه أو متأخّراً عنه، فإنّ بين الاعتبارين فرقاً».(2)


1. راجع: النجاة: ص‌‌228؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة التاسعة من إلهيّات الشفاء.

2. راجع: نقد المحصّل: ص‌‌102ـ103.

والحقّ أنّ الإضافات مفاهيم عقليّة انتزاعيّة لا تحكي عن حيثيّة عينيّة في ذات الواجب تعالى، وفعليّة اتّصاف الواجب بها يتوقّف على فعليّة طرفي الإضافة، ولا يستلزم ذلك نقصاً في الواجب تبارك وتعالى.(1) ولا مجال ههنا للتوسّع في هذا المقال، فلنمسك زمام القلم ولنطو الكلام.(2)

66ـ قوله «انّ الوجود الواجبيّ وجود صرف»

اعلم أنّ الصرافة قد تستعمل في المهيّات ويراد بها خلوصها عن كلّ ما هو خارج عنها من العوارض اللازمة والمفارقة، ثمّ يقال «صرف الشيء لا يتثنّى ولا يتكرّر» ومفاده أنّ كلّ مهيّة بصرف النظر عن عوارضها واحدةٌ وحدةً ماهويّة ومفهوميّة، وموطن هذه الصرافة والوحدة هو الذهن فقط، لأنّ المهيّة مخلوطة في الخارج ـ كما سيأتي في البحث عن اعتبارات المهيّة ـ وقابلة للكثرة بتكثّر أفرادها. وقد تستعمل الصرافة في الوجود فيراد بها خلوصه عن الجهات الماهويّة والعدميّة، أعني كونه بحيث لا يستطيع العقل انتزاع مفهوم ماهويّ أو عدميّ عنه، ومرجعها إلى الكمال واللاتناهي المطلقين. ويختصّ الوجود الصرف بالواجب تبارك وتعالى،(3) لأنّه هو الذي لا مهيّة له ولا عدم فيه، وأمّا غير الواجب فوجوده مشوب بالنقائص والأعدام بحسب التحليل العقليّ الذي مرجعه إلى ضعف الوجود ومحدوديّته في الواقع العينيّ.

ويستدلبصرافة وجوده تعالى على وحدته وحدةً حقّة حقيقيّة، وذلك لأنّه لوفرض له ثان كان له كمال استقلاليّ يكون الواجب الأوّل فاقداً لشخصه، فيلزم أن يكون متّصفا


1. راجع: كلام الشيخ المنقول تحت الرقم (61).

2. راجع: الفصل الرابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: المطارحات: ص‌‌400.

3. راجع: التلويحات: ص‌‌35؛ وذيل المسألة السابعة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق: ص‌‌106.

بعدم ذلك الكمال الموجود في الواجب الآخر المفروض، وهذا ينافي صرافة وجوده وعدم اتّصافه بصفة عدميّة. أمّا الكمالات الموجودة في مخلوقاته فليست مستقلّة عنه ولا يكون الواجب فاقداً لها، حتّى يلزم من ثبوتها ثبوت ثان له سبحانه.

الفصل الخامس

67ـ قوله «الشيء ما لم ‌يجب لم ‌يوجد»

إنّ العقل بعد اعتباره حيثيّة المهيّة كحيثيّة متمايزة عن الوجود يراها أمراً لا يقتضي لذاته وجوداً ولا عدماً، فيصفها بتساوي نسبتها إلى الوجود والعدم، ولازم ذلك أن يكون خروجها عن حدّ الاستواء واتّصافها بالوجود أو العدم مستنداً إلى أمر خارج عنها، فإنّ الاتّصاف بأحدهما إذا لم يكن بالذات كان لا محالة بالغير ولا ثالث لهما. ويعبّر عن ذلك بأنّها ممكنة فتكون محتاجة إلى العلة حتّى توجبها فتجب بإيجابها، كلُّ ذلك قبل أن توجَد، قبليّةً في لحاظ العقل.(1)

ثمّ إنّ بعض المتكلّمين توهّموا أنّ هذه القاعدة تستلزم صيرورة الفاعل موجَباً (بالفتح) زعماً منهم أنّ المعلول إذا بلغ حدّ الوجوب لم يقدر الفاعل على ترك إيجاده، وغفلةً منهم أنّ هذه المفاهيم المرتّبة من الإمكان إلى الإيجاد كلّها مفاهيم عقليّة، وإنّما الوجود العينيّ هو لذات العلّة وذات المعلول فحسب، وأنّ وجوب المعلول إذا كان مستنداً إلى اختيار العلّة فهو تثبيت له ولا يستلزم سلبه. فذهبوا إلى أنّ المعلول قبل وجوده يتّصف بالأولويّة، حتّى لا يكون متساوي النسبة إلى الوجود والعدم من جانب، ولا يكون بالغاً حدّ الضرورة المستلزمة لاضطرار الفاعل من جانب آخر.

ولا يخفى أنّ هذه الأولويّة هي المكتسبة من الفاعل، وأمّا الأولويّة الذاتية


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌217؛ وراجع: القبسات: ص‌‌314.

لجميع الممكنات أو لبعضها بالنسبة إلى الوجود ولبعضها بالنسبة إلى العدم فهي أمر آخر لا صلة له بهذه المسألة.(1)

68ـ قوله «أو لا تنفكّ عنها»

إشارة إلى التفسير المنقول عن السيّد الداماد للأولويّة الذاتيّة، وهو كون الأولويّة غير منفكّة عن ذات الممكن وإن لم تكن باقتضاء وسببيّة من الذات لها قياساً على الوجوب الذاتيّ الذي لا ينفكّ عن ذات الواجب وإن لم يكن معلولاً لها. وردّ عليه بأنّ القياس مع الفارق، فإنّ الوجود في الواجب عين ذاته فلذلك لا يتصوّر هناك اقتضاء وعلّية، بخلافه ههنا.(2)

69ـ قوله «إمّا كافية»

لا يخفى أنّ القول بالأولويّة الذاتيّة الكافية يستلزم الاستغناء عن الواجب.

70ـ قوله «بالنسبة إلى طائفة من الموجودات»

مثل الزمان والحركات والأصوات.


تنبيه

71ـ قوله «سابق على وجودها منتزع عنه»

قد مرّ توجيه تقدّم الوجوب على الوجود، لكن ربما يستشكل الجمع بين كونه


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌199ـ215 و221ـ230؛ والمسألتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين من الفصل الأوّل من الشوارق: ص‌‌82ـ85.

2. راجع: المسألة الثالثة والعشرين من الفصل الاول من الشوارق: ص‌‌84.

سابقاً على الوجود وكونه منتزعاً عنه. ويمكن دفع الإشكال بأنّ تقدّم الوجوب على الوجود إنّما هو بحسب الرتبة في وعاء التحليل العقليّ، وهذا التحليل إنّما يتمّ بالنسبة إلى الموجود الخارجيّ، فيكون الوجود العينيّ منشأً لانتزاعه. فالسبق الرتبيّ التحليليّ للوجوب على الوجود لا ينافي السبق العينيّ للوجود عليه.

ثمّ إنّ الوجوب اللاحق عبارة عن الضرورة بشرط المحمول التي لا تخلو عنها قضيّة فعليّة، فلا يلزم من لحوقه اجتماع وجوبين لشيء واحد من جهة واحدة، فهناك قضيّتان: إحداهما ما يكون الموضوع فيها المهيّة متحيّثةً بحيثيّة تعليليّة من دون اشتراط الوجود فيها، وثانيتهما ما يكون الموضوع فيها المهيّة المشترطة بالوجود. والوجوب السابق هو مادّة القضيّة الاُولى، والوجوب اللاحق هو مادّة القضيّة الثانية، ومرتبة اعتبار الثاني متأخّر عن مرتبة اعتبار الأوّل. ونظير هذا الكلام يجري في الامتناعين.(1)

واعلم أنّ المهيّة تتّصف بوجوب آخر وهو الوجوب بالقياس إلى العلّة، وسيأتي البحث عنه في الفصل الثالث من المرحلة الثامنة.(2)

الفصل السادس

72ـ قوله «في حاجة الممكن إلى العلّة»

أمّا أصل حاجة الممكن إلى المؤثّر فقد عدّ من الضروريّات الأوّليّة،(3) وقد تعرّض له في التجريد بعد البحث عن مناط الحاجة،(4) وأنكر بداهتها طوائف من أهل النظر من المسلمين وغيرهم، وتشكّك في ثبوتها طوائف اُخرى من التجربيّين ومن


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌224ـ225؛ والشوارق: ص‌‌85؛ والمباحث المشرقيّة: ج‌1، ص‌‌132.

2. راجع: الأسفار: ج‌2، ص‌‌131.

3. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌207؛ والفصل السادس من المقالة الاُولىٰ من إلهيّات الشفاء.

4. راجع: المسألة الثانية والعشرين والمسألة الخامسة والثلاثين من الفصل الأوّل من الشوارق.

ينسج على منوالهم. والذي ينبغي الالتفات إليه أنّ موضوع القضيّة الضروريّة هو «الممكن» أو ما يفيد معناه، وأمّا تعيين مصاديق الممكن فليس بضروريّ، ولابدّ من تبيين خواصّ الممكن والواجب وتعيين علائم الإمكان، حتّى يتبيّن أنّ العالَم بجميع أجزائه ممكن يحتاج إلى علّة وراءه.

وأمّا مناط حاجة الممكن إلى العلّة فقد يراد بالممكن في هذا العنوان المهيّةُ الممكنة، وقد يراد به الوجود الإمكانيُّ، والشائع في كتب القوم هو الأوّل،(1) وهو يلائم القول بأصالة المهيّة، كما أنّ الثاني هو الملائم للقول بأصالة الوجود، لكنّ القائلين بأصالة الوجود أيضاً ركّزوا على المهيّة في موضوع المسألة إمّا لأجل مجاراة القوم وإمّا لأجل مراعاة حال المتعلّم. وقد يعبّرون بعلّة الحاجة، ويعنون بالعلّة الجهةَ التي بالنظر إليها يحكم العقل بالاحتياج إلى العلّة.

وقد وقع الخلاف بين الفلاسفة والمتكلّمين في تعيين مناط الحاجة، وأشهر الأقوال في المسألة قول الفلاسفة بأنّ المناط هو الإمكان، وقول كثير من المتكلّمين أنّه هو الحدوث. وقال صدر المتألّهين في موضع من الأسفار بعد الإشارة إلى هذا الاختلاف ما لفظه: «الحقُّ أنّ منشأ الحاجة إلى السبب لا هذا ولا ذاك، بل منشأها كون الشيء تعلّقيّاً متقوّماً بغيره مرتبطاً إليه»(2) وهذا هو الذي يعبّر عنه بالإمكان الفقريّ أو الوجوديّ.

تنبيه

73ـ قوله «ومن هذا القبيل حكم العقل...»

قد مرّت الإشارة إليه في الفصل الرابع من المرحلة الاُولىٰ.(3)


1. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌206؛ وج2: ص‌‌202؛ وراجع: الفصل الأوّل من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: النجاة: ص‌‌213؛ والمباحث المشرقيّة: ج‌1، ص‌‌134 و 485ـ494؛ والقبسات: ص‌‌313.

2. راجع: الأسفار: ج‌3، ص‌‌253.

3. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌215 و 350.

الفصل السابع

74ـ قوله «الممكن محتاج إلى العلّة بقاءً...»

إنّ قوماً من المتكلّمين لمّا زعموا أنّ الحدوث مناط الحاجة إلى المؤثّر ذهبوا إلى أنّ المعلول في بقائه لا يحتاج إلى العلّة، واحتجّوا لذلك بأمثلة عامّية كبقاء الابن والبناء والسخونة بعد فناء الأب والبنّاء والنار، وخلطوا بين الفاعل الحقيقيّ والمعدّ، حتّى نقل عنهم أنّه لو جاز على الواجب العدم لما ضرَّ عدمُه وجودَ العالم،(1) سبحانه وتعالى عمّا يقولون. ولم ‌يعرفوا أنّ مراد الحكماء من العلّة في قولهم بلزوم معيّة العلّة للمعلول هو العلّة المفيدة (دون المعدّة) وعلّة القوام (المادّة والصورة) في الأجسام.(2)

الفصل الثامن

75ـ قوله «كذلك لا يقدر أن ‌يتصوّر الممتنع بالذات»(3)

المراد عدم قدرة العقل على نيل ما هو ممتنع بالذات بالحمل الشائع لا نيل هذا المفهوم الذي هو من المعقولات الثانية، وسبب عدم القدرة عدم وجود ذات ومهيّة وصورة عقليّة له.

76ـ قوله «أو بذاته فقط أو بغيره فقط»

بأن يكون كلا الوجوبين بالذات أو كلاهما بالغير.


1. راجع: المسألة السادسة والثلاثين من الفصل الأوّل من الشوارق.

2. راجع: الفصل الأوّل والفصل الثاني من المقالة السادسة من إلهيّات الشفاء؛ وراجع: التحصيل: ص‌‌524527؛ والأسفار: ج‌1، ص‌‌219ـ221؛ وج2: ص‌‌203 و 212ـ216.

3. راجع: نفس المصدر: ج‌1، ص‌‌236ـ237 و 387.

77ـ قوله «لكن ليس الاستلزام إلاّ من الجهة الامتناعيّة»

كما أنّ وجود الممكن يستلزم الواجب بالذات كذلك امتناع الممكن يستلزم الممتنع بالذات، لأنّ المفروض أنّ امتناعه يكون بالغير، وكلُّ ما بالغير لا بدّ وأن ‌ينتهي إلى ما بالذات. ولكن بالنظر إلى أنّ هذه العناوين مأخوذة من موادّ القضايا التي يحمل فيها الوجود على المهيّة أو ما في حكمها فهي صفات بحال الوجود وتنسب إلى المهيّات أو المفاهيم بالعرض. فالمهيّة الممكنة لا تستلزم الواجب بالذات بما أنّها مهيّة أو بما أنّها ممكنة بل بما أنّها موجودة ويكون وجودها واجباً بالغير، كذلك لا تستلزم الممتنع بالذات بما أنّها مهيّة ممكنة، بل بما أنّها معدومة ويكون وجودها ممتنعاً بالغير. وإن شيءت فقل: إنّ الضرورة بالغير صفة لعدمها بالذات وتنسب إلى المهيّة الممكنة بالعرض. فالمهيّة الممكنة الممتنعة بالغير تستلزم الممتنع بالذات لأجل أنّها ممتنعة بالغير لا لأجل أنّها مهيّة ممكنة.

78ـ قوله «يستلزم ممتنعاً بالذات وهو كون المحصور غير محصور»

الظاهر أنّه إشارة إلى البرهان السلّميّ الذي اُقيم على تناهي الأبعاد، وتقريره أنّه لو رُسم من نقطة خطّان غير متوازيان على هيئة ساقي المثلّث فكلّما امتدّ الخطّان صار البُعد بينهما أزيد، فلو امتدّا إلى غير النهاية كان الخطّ المفروض بينهما ـ الذي يكون وتراً لزاوية التقاطع وقاعدة للمثلّث ـ غيرَ متناهٍ مع أنّه محصور بين حاصرين.(1)

79ـ قوله «بحسب البخت والاتّفاق»

قال الحكيم السبزواريّ في تعليقته على الأسفار «مصاحبة البخت والاتّفاق هنا بحسب الاتّفاق كما لا يخفى».(2)


1. راجع: نفس المصدر: ج‌4، ص‌‌23؛ وراجع: الفصل السابع من المقالة الثالثة من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ذيل الصفحة 237.

80ـ قوله «فإنّ المحال لا يستلزم أيَّ محال»

كما لا تستلزم حماريّة الإنسان صاهليّته، بل إنّما يستلزم محالاً له علاقة سببيّة مع المحال المفروض كاستلزام حماريّة الإنسان ناهقيّته.(1)

81ـ قوله «وإن قيل...»

حاصل الإشكال أنّ للواجبتعالىصفاتٍ سلبيّةً تكون ممتنعة الحصول له تعالى، وهذا الامتناع ذاتي لا محالة، لأنّه لو كانت هذه الصفات ممتنعة بالغيرلكانت ممكنة بالذات لما ثبت أن الممتنع بالغير هو الممكن بالذات، والواجب تعالى ليس لهصفة إمكانيّة لما ثبت أنّ الواجب بالذات واجب من جميع الجهات. ومقتضى ما ذكر من عدم وجود العلاقة اللزومية بين الممتنعات بالذات أن لا تكون بين هذه الصفات السلبيّة علاقة لزوميّة، مع أنّ وقوعها في البرهان والسلوك من بعضها إلى بعض يكشف عن وجود العلاقة اللزوميّة بينها، فإنّ البرهان عليها وإن كان برهاناً إنّيّاً لكنّه يتشكّل من مقدّمات متلازمة.

وحاصل الجواب أنّه كما لا يوجب كثرة الصفات الثبوتيّة تعدّد الواجب بالذات لكون مصداق الجميع واحداً كذلك كثرة الصفات السلبيّة لا تستلزم تعدّد الممتنعات بالذات حتّى تلاحظ بينها علاقة. وبعبارة اُخرى: محلّ البحث ما إذا كان اُمور متعدّدة بالذات لكلّ واحد منها مصداقه المفروض، وههنا ليس إلاّ مصداق واحد موجود تسلب عنه مفاهيم عدميّة أو إمكانيّة بالضرورة.

82ـ قوله «كذلك يمتنع استلزام الممكن لممتنع بالذات»

قد مرّت الإشارة إليه في كلام صدر المتألّهين وراجع توضيحه تحت الرقم (77) وقد ذكر في الأسفارالإشكال المذكور ههنا ونقل عن المحقّق الطوسي جوابا عنه ورد عليه.(2)


1. راجع: نفس المصدر، ص‌‌237 و 190ـ196 و 240ـ243 و 383ـ386؛ وراجع: القبسات: ص‌‌282ـ283.

2. راجع: الأسفار: ج‌1، ص‌‌191ـ196.

آدرس: قم - بلوار محمدامين(ص) - بلوار جمهوری اسلامی - مؤسسه آموزشی و پژوهشی امام خمينی(ره) پست الكترونيك: info@mesbahyazdi.org